هذا خلق الله

التفكر في خلق الله

التفكر في خلق الله :

أصحاب العقول والأفهام ، من أولي النهى والأحلام ، لا أصحاب الهوى والأسقام ، من الأقزام اللئام .

أولئك الكرام هم الذين يذكرون ربهم على الدوام .

ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ، ويقولون في أنفسهم : سبحان من رفع السماء بلا عَمَد ، وبسط الأرض على ماء جَمَد ، سبحان ذي المُلك والملكوت ، الحي الذي لا يموت ، سبحان الله الجليل ، القائل في محكم التنزيل : ” أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى ٱلإِبْلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى ٱلسَّمَآءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَىٰ ٱلْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى ٱلأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ * فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ “. (الغاشية : 17-22)

وقال الله تبارك وتعالى :
” إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ۝ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ۝ رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ۝ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ ۝ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ “. ﴿آل عمران : 190-194﴾

ختم الله تبارك وتعالى سورة ” آل عمران “ بالأمر بالنظر والاستدلال في آياته ؛ إذ لا تصدر إلا عن حي قيوم قدير وقدوس سلام غني عن العالمين ، حتى يكون إيمانهم مستندًا إلى اليقين لا إلى التقليد .

إنها آيات لأولي الألباب الذين يستعملون عقولهم في تأمل الدلائل .

أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ، قَالَ : بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ ، فَتَحَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَهْلِهِ سَاعَةً ، ثُمَّ رَقَدَ ، فَلَمَّا كَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ ، قَعَدَ فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ ، فَقَالَ : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ } ، ثُمَّ قَامَ فَتَوَضَّأَ وَاسْتَنَّ فَصَلَّى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً ، ثُمَّ أَذَّنَ بِلاَلٌ ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الصُّبْحَ .

وفي رواية عندهما : وَهُوَ يَقُولُ : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } [آل عمران : 190] ، فَقَرَأَ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ حَتَّى خَتَمَ السُّورَةَ .

ندعوكم لقراءة : وفي أنفسكم أفلا تبصرون

  • يقول أهل التفسير :

{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ }. (آل عمران : 190)

{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } إيجادهما من العدم على غير مثال سابق { وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } طولًا وقِصَرًا { لَآيَاتٍ } لدلائل وبراهين عظيمة على وحدانية الله { لِأُولِي الْأَلْبَابِ } لأصحاب العقول السليمة ، ثم وصف أصحاب العقول السليمة فقال :

{ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)}.

{ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ } مضطجعين ، أي الذين يداومون على ذكر الله في جميع الأحوال ؛ لأن الإنسان قلما يخلو من إحدى هذه الحالات الثلاث ، مثله في سورة النساء { فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ } [النساء : 103] { وَيَتَفَكَّرُونَ } ويتدبرون { فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } وما أبدع فيهما ليدلهم ذلك على قدرة الله ويعرفوا أن لها صانعاً قادراً مدبراً حكيماً عليماً ، قال أهل العلم : التفكر : هو أن الإنسان يُعمل فكره في الأمر ، حتى يصل فيه إلى نتيجة ، وقد أمر الله تعالى به -أي بالتفكر- وحث عليه في كتابه ، لما يتوصل إليه الإنسان به من المطالب العالية والإيمان واليقين { رَبَّنَا } أي : ويقولون ربنا { مَا خَلَقْتَ هَذَا } الخلق { بَاطِلًا } بالباطل ، أي : عبثاً وهزلاً ؛ بل خلقته لأمر عظيم { سُبْحَانَكَ } تنزيه لله تبارك وتعالى عن العبث وجميع النقائص { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } فاصرِف عنا عذاب النار .

{ رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192)}.

{ رَبَّنَا } ويقولون يا ربنا { إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } أي : أهنته ، وقيل : أهلكته ، وقيل : فضحته { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } وما لمن خالف أمر الله فعصاه ؛ من ذي نصرة له ينصره من الله فيدفع عنه عقابه أو ينقذه من عذابه .

{ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193)}.

{ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا } يعني : محمدًا صلى الله عليه وسلم { يُنَادِي لِلْإِيمَانِ } إلى الإيمان { أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ } أي يدعو الناس إلى الإيمان بالله { فَآمَنَّا } فأجبنا دعوته وآمنا بما جاء به وصدقناه واتبعناه ، فبإيماننا واتباعنا نبيك { رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا } استرها علينا { وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا } وامحها ولا تؤاخذنا بها { وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ } أي : في جملة المطيعين الصالحين .

{ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)}.

{ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ } أي : على ألسنة رسلك { وَلَا تُخْزِنَا } ولا تعذبنا ولا تهلكنا ولا تفضحنا ولا تهنا { يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ } فإنك لا تُخْلف وعدًا وَعَدْتَ به عبادك .

ندعوكم لقراءة : انظر إلى طعامك

  • جذب القلوب إلى الحق :

قال الرازي : اعلم أن المقصود من هذا الكتاب الكريم جذب القلوب ، والأرواح من الاشتغال بالخلق إلى الاستغراق في معرفة الحق ، فلما طال الكلام في تقرير الأحكام ، والجواب عن شبهات المبطلين عاد إلى إنارة القلوب بذكر ما يدل على التوحيد ، والإلهية ، والكبرياء ، والجلال ، فذكر هذه الآية . اهـ .

  • وفي تفسير المنار لمحمد رشيد رضا ، يقول رحمه الله تعالى :

هذه الآيات تظهر لكل أحد على قدر علمه وفهمه وجودة فكره ، فأما علماء الهيئة فإنهم يعرفون من نظامها ما يدهش العقل ، وأما سائر الناس فحسبهم هذه المناظر البديعة ، والأجرام الرفيعة ، وما فيها من الحسن ، والروعة ، وخص أولي الألباب بالذكر مع أن كل الناس أولو ألباب ؛ لأن من اللب ما لا فائدة فيه ، كَلُبِّ الجوز ونحوه إذا كان عفنًا ، وكذا تفسد ألباب بعض الناس وتعفن ، فهي لا تهتدي إلى الاستفادة من آيات الله في خلق السماوات والأرض وغيرهما .

وإنما سُمِّيَ العقل لبًّا ؛ لأن اللب هو محل الحياة من الشيء ، وخاصته وفائدته ، وإنما حياة الإنسان الخاصة به هي حياته العقلية ، وكل عقل متمكن من الاستفادة من النظر في هذه الآيات والاستدلال بها على قدرة الله ، وحكمته ، ولكن بعضهم لا ينظر ، ولا يتفكر ، وإنما العقل الذي ينظر ، ويستفيد ، ويهتدي هو الذي وصف أصحابه بقوله -تعالى- : الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم ، والذكر في الآية على عمومه لا يخص بالصلاة ، والمراد به ذكر القلوب ، وهو إحضار الله -تعالى- في النفس وتذكر حكمه ، وفضله ، ونعمه في حال القيام ، والقعود ، والاضطجاع ، وهذه الحالات الثلاث التي لا يخلو العبد عنها تكون فيها السماوات ، والأرض معه لا يتفارقان ، والآيات الإلهية لا تظهر من السماوات والأرض إلا لأهل الذكر ، فكأين من عالم يقضي ليله في رصد الكواكب فيعرف منها ما لا يعرف الناس ، ويعرف من نظامها ، وسننها ، وشرائعها ما لا يعرف الناس ، وهو يتلذذ بذلك العلم ولكنه مع هذا لا تظهر له هذه الآيات ؛ لأنه منصرف عنها بالكلية .

ثم إن ذكر الله -تعالى- لا يكفي في الاهتداء إلى الآيات ، ولكن يشترط مع الذكر التفكر فيها ، فلا بد من الجمع بين الذكر ، والفكر ، فقد يذكر المؤمن بالله ربه ، ولا يتفكر في بديع صنعه ، وأسرار خليقته ؛ ولذلك قال : ويتفكرون في خلق السماوات والأرض .

أقول : قد يتفكر المرء في عجائب السماوات والأرض ، وأسرار ما فيهما من الإتقان ، والإبداع ، والمنافع الدالة على العلم المحيط ، والحكمة البالغة ، والنعم السابغة ، والقدرة التامة ، وهو غافل عن العليم الحكيم القادر الرحيم الذي خلق ذلك في أبدع نظام ، وكم من ناظر إلى صنعة بديعة لا يخطر في باله صانعها اشتغالًا بها عنه ، فالذين يشتغلون بعلم ما في السماوات والأرض هم غافلون عن خالقهما ، ذاهلون عن ذكره ، يمتعون عقولهم بلذة العلم ، ولكن أرواحهم تبقى محرومة من لذة الذكر ومعرفة الله -عز وجل- ، فمثلهم كما قال الأستاذ الإمام : كمثل من يطبخ طعامًا شهيًّا يغذي به جسده ، ولكنه لا يرقى به عقله ، يعني أن الفكر وحده وإن كان مفيدًا لا تكون فائدته نافعة في الآخرة إلا بالذكر ، والذكر وإن أفاد في الدنيا والآخرة لا تكمل فائدته إلا بالفكر ، فيا طوبى لمن جمع بين الأمرين واستمتع بهاتين اللذتين ، فكان من الذين أوتوا في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة ، ونجوا من عذاب النار في الآخرة ، فتلك النعمة التي لا تفضلها نعمة ، واللذة التي لا تعلوها لذة ؛ لأنها هي التي يهون معها كل كرب ، ويسلس كل صعب ، وتعظم كل نعمة ، وتتضاءل كل نقمة ، تلك اللذة التي تتجلى مع الذكر في كل شيء فيكون في عين ناظره جميلًا ، وفي كل صوت فيكون في سمع سامعه مطربًا ، فلسان حال الذاكر ينشد في هذا التجلي قول الشاعر الذاكر :

من كل معنى لطيف أجتلي قدحا … وكل حادثة في الكون تطربني

فإذا تحول التجلي عن جمال الأكوان ، وتفكر الذاكر في تقصيره من حيث هو إنسان عن شكر المنعم عليه بكل شيء يتمتع به ، وعن القيام بما يصل إليه استعداده من معرفته استولى عليه سلطان الجلال فتعلو همته في طلب الكمال فينطلق لسانه بالدعاء ، والثناء ، وقلبه بين الخوف والرجاء .

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى