كل يوم هو في شأن
الله ربنا كل يوم هو في شأن ؛ يعطي رغابًا ، ويمنح ثوابًا ، ويعتق رقابًا ، ويفتح بابًا ، ويزجي سحابًا ، ويعمر خرابًا ، ويغلق بابًا ، ويقحم عقابًا .
فاستقيموا يفتح الله … لكم بابًا فبابا
يقول الله الملك الحق :
” يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ “. (الرحمن : 29)
يسأله كل مَن في السموات من الملائكة ، ومن في الأرض من الجن والإنس حاجاتهم ، فلا غنى لأحد منهم عنه سبحانه .
كل يوم هو في شأن : يُعِزُّ ويُذِلُّ ، ويعطي ويَمْنع ، يحيي ويميت ، وغير ذلك في كل أمر يُظهره على وفق ما قدره في الأزل من إحياء وإماتة وإعزاز وإذلال وإغناء وإعدام وإجابة داع وإعطاء سائل وغير ذلك .
المَلِك سبحانه : هو مالك الملك والملكوت ، بيده مقاليد كل شيء ، كل يوم هو في شأن ، سبحانه ، سبحانه ؛ ولا يُقال لغيره سبحان .
يكشف كربًا ، ويغفر ذنبًا ، يعطي رزقًا ، يشفي مريضًا ، يعافي مبتلًى ، يفك مأسورًا ، ويجبرُ كسيرًا .
فالحمد لله كثيرًا .
يقول العلامة عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى : هو الغني بذاته عن جميع مخلوقاته ، وهو واسع الجود والكرم ، فكل الخلق مفتقرون إليه ، يسألونه جميع حوائجهم ، بحالهم ومقالهم ، ولا يستغنون عنه طرفة عين ولا أقل من ذلك ، وهو تعالى كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ يغني فقيرًا ، ويجبر كسيرًا ، ويعطي قومًا ، ويمنع آخرين ، ويميت ويحيي ، ويرفع ويخفض ، لا يشغله شأن عن شأن ، ولا تغلطه المسائل ، ولا يبرمه إلحاح الملحين ، ولا طول مسألة السائلين ، فسبحان الكريم الوهاب ، الذي عمت مواهبه أهل الأرض والسماوات ، وعم لطفه جميع الخلق في كل الآنات واللحظات ، وتعالى الذي لا يمنعه من الإعطاء معصية العاصين ، ولا استغناء الفقراء الجاهلين به وبكرمه ، وهذه الشئون التي أخبر أنه تعالى كل يوم هو في شأن ، هي تقاديره وتدابيره التي قدرها في الأزل وقضاها ، لا يزال تعالى يمضيها وينفذها في أوقاتها التي اقتضته حكمته ، وهي أحكامه الدينية التي هي الأمر والنهي ، والقدرية التي يجريها على عباده مدة مقامهم في هذه الدار ، حتى إذا تمت (هذه) الخليقة وأفناهم الله تعالى وأراد تعالى أن ينفذ فيهم أحكام الجزاء ، ويريهم من عدله وفضله وكثرة إحسانه ، ما به يعرفونه ويوحدونه ، نقل المكلفين من دار الابتلاء والامتحان إلى دار الحيوان .
قال قتادة : لا يستغني عنه أهل السماء والأرض .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : فأهل السماوات يسألونه المغفرة وأهل الأرض يسألونه الرحمة ( والرزق والتوبة والمغفرة ).
وقال مقاتل : يسأله أهل الأرض الرزق والمغفرة وتسأله الملائكة أيضًا لهم الرزق والمغفرة .
وقال أيضًا : نزلت في اليهود حين قالوا إن الله لا يقضي يوم السبت شيئًا .
قال المفسرون : من شأنه أن يحيي ويميت ، ويرزق ، ويعز قومًا ، ويذل قومًا ، ويشفي مريضا ، ويفك عانيًا ويفرج مكروبًا ، ويجيب داعيًا ، ويعطي سائلًا ويغفر ذنبًا ، إلى ما لا يُحصى من أفعاله وأحداثه في خلقه ما يشاء .
عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : إن مما خلق الله عز وجل لوحًا من درة بيضاء ، دفتاه ياقوتة حمراء ، قلمه نور وكتابه نور ، ينظر الله -عز وجل- فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة ، يخلق ويرزق ، ويحيي ويميت ، ويعز ويذل ، ويفعل ما يشاء ؛ فذلك قوله : ” كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ “.
قال سفيان بن عيينة : الدهر كله عند الله يومان ؛ أحدهما مدة أيام الدنيا والآخر يوم القيامة ، فالشأن الذي هو فيه اليوم الذي هو مدة الدنيا : الإخبار بالأمر والنهي والإحياء والإماتة ، والإعطاء والمنع ، وشأن يوم القيامة : الجزاء والحساب ، والثواب والعقاب .
وقيل : شأنه جل ذكره أنه يخرج في كل يوم وليلة ثلاثة عساكر ، عسكرًا من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات ، وعسكرًا من الأرحام إلى الدنيا ، وعسكرًا من الدنيا إلى القبور ، ثم يرتحلون جميعًا إلى الله عز وجل .
قال الحسين بن الفضل : هو سوق المقادير إلى المواقيت .
وقال أبو سليمان الداراني في هذه الآية : كل يوم له إلى العبيد بر جديد .
( عن تفسير : البغوي ).
يقول الدكتور محمد سيد طنطاوي في تفسيره [ الوسيط ] : «يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ».
بيان لغناه المطلق عن غيره ، واحتياج غيره إليه .
والمراد باليوم هنا : مطلق الوقت مهما قل زمنه ، والشأن : الأمر العظيم ، والحدث الهام .
أى : أنه -سبحانه- يسأله من في السموات والأرض ، سؤال المحتاج إلى رزقه ، وفضله ، وستره ، وعافيته .
وهو -عز وجل- في كل وقت من الأوقات ، وفي كل لحظة من اللحظات ، في شأن عظيم ، وأمر جليل ، حيث يحدث ما يحدث من أحوال في هذا الكون ، فيحيى ويميت ، ويعز ويذل ، ويغنى ويفقر ، ويشفى ويمرض .
دون أن يشغله شأن عن شأن .
قال الآلوسى ما ملخصه : قوله : «كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ» أي : كل وقت من الأوقات ، هو في شأن من الشئون ، التي من جملتها إعطاء ما سألوا .
فإنه -تعالى- لا يزال ينشئ أشخاصًا ، ويفنى آخرين ، ويأتى بأحوال ، ويذهب بأحوال ، حسبما تقتضيه إرادته المبنية على الحكم البالغة .
أخرج البخاري في تاريخه ، وابن ماجه ، وجماعة عن أبى الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآية : ” من شأنه : أن يغفر ذنبًا ، ويفرج كربًا ، ويرفع قومًا ، ويخفض آخرين “.
سأل بعضهم أحد الحكماء ، عن كيفية الجمع بين هذه الآية ، وبين ما صح من أن القلم قد جف بما هو كائن إلى يوم القيامة ، فقال : {شئون يبديها لا شئون يبتديها}.
قال كليم الله موسى عليه السلام : ” اللهم لك الحمد ، وإليك المُشتَكَى ، وأنت المُستَعَان ، وبك المُستَغَاث ، وعليك التُّكلان ، ولا حول ولا قوة إلا بك “.
هو منتهى حاجات الصالحين وصريخهم ، ومنتهى شكواهم .