كما يقول الكتاب

أهل الذكر

أهل الذكر :

يقول الله تعالى في كتابه العزيز :

” وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ ۚ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ “. (النحل : 43)

  • وفي تفسير الجلالين :

«وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم» لا ملائكة «فاسألوا أهل الذكر» العلماء بالتوراة والإنجيل «إن كنتم لا تعلمون» ذلك ، فإنهم يعلمونه وأنتم إلى تصديقهم أقرب من تصديق المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم .

  • وفي التفسير الميسر :

وما أرسلنا في السابقين قبلك -أيها الرسول- إلا رسلًا من الرجال لا من الملائكة ، نوحي إليهم ، وإن كنتم -يا مشركي قريش- لا تصدقون بذلك فاسألوا أهل الكتب السابقة ، يخبروكم أن الأنبياء كانوا بشرًا ، إن كنتم لا تعلمون أنهم بشر .

والآية عامة في كل مسألة من مسائل الدين ، إذا لم يكن عند الإنسان علم منها أن يسأل من يعلمها من العلماء الراسخين في العلم .

– تكرر مرتين :

تكرر هذا التوجيه الربانى القرآنى بسؤال أهل الذكر مرتين فى كتاب الله المحكم ، مرة في سورة النحل ، كما سبق وذكرنا ، والأخرى في سورة الأنبياء ؛ الآية رقم (7) ، يقول الله عز وجل :

” وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ ۖ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ “.

  • في التفسير الوسيط :

وها هو الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر السابق الدكتور محمد سيد طنطاوي رحمه الله ، يقول في تفسيره [ الوسيط ] :

وما أرسلنا قبلك -أيها الرسول الكريم- إلى الأمم السابقة إلا رسلًا من البشر ، ليعيشوا حياة البشر ، ويتمكنوا من التعامل والتخاطب والتفاهم مع من هم من جنسهم ، ولو كان الرسل من غير البشر لما كانت هناك وشيجة ورابطة بينهم وبين أقوامهم .
وهذه الجملة رد مفحم على المشركين الجاهلين الذين استبعدوا أن يكون الرسول بشرا وقالوا قبل ذلك : هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ .
وقوله -تعالى- نُوحِي إِلَيْهِمْ استئناف مبين لكيفية الإرسال .
أى : اقتضت حكمتنا أن يكون الرسل من الرجال ، وأن نبلغهم ما نكلفهم به عن طريق الوحى المنزل إليهم من جهتنا .
وقوله -سبحانه- : فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ توبيخ لهم وتجهيل ، لأنهم قالوا ما قالوا بدون تعقل أو تدبر .
والمراد بأهل الذكر : علماء أهل الكتاب الذين كان المشركون يرجعون إليهم في أمور دينهم .
والفاء في قوله : فَسْئَلُوا .
لترتيب ما بعدها على ما قبلها .
وجواب الشرط محذوف لدلالة الكلام عليه .
أى : مادامت قد بلغت بكم الجهالة أن تستبعدوا أن يكون الرسول بشرا فاسألوا أهل العلم في ذلك ، فسيبينون لكم أن الرسل السابقين لم يكونوا إلا رجالا .
قال القرطبي : قوله -تعالى- : فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ يريد أهل التوراة والإنجيل الذين آمنوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وسماهم أهل الذكر ، لأنهم كانوا يذكرون خبر الأنبياء ، مما لم تعرفه العرب ، وكان كفار قريش يراجعون أهل الكتاب في أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم .
وقال ابن زيد : أراد بالذكر : القرآن .
أى : فاسألوا المؤمنين العالمين من أهل القرآن .

– مسألة :

يقول الامام القرطبي رحمه الله :

لم يختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها ، وأنهم المراد بقول الله عز وجل : ” فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ “.

وأجمعوا على أن الأعمى لا بد له من تقليد غيره ممن يثق بميزه بالقبلة إذا أشكلت عليه ؛ فكذلك من لا علم له ولا بصر بمعنى ما يدين به لابد له من تقليد عالمه ، وكذلك لم يختلف العلماء أن العامة لا يجوز لها الفتيا ؛ لجهلها بالمعاني التي منها يجوز التحليل والتحريم .

– الكشاف :

قال الزمخشري في [ الكشاف ] :

أمرهم أن يستعلموا أهل الذكر وهم أهل الكتاب ، حتى يعلموهم أن رسل الله الموحى إليهم كانوا بشرًا ولم يكونوا ملائكة كما اعتقدوا ، وإنما أحالهم على أولئك ؛ لأنهم كانوا يشايعون المشركين في معاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قال الله تعالى : ” وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا “. (آل عمران : 186)

فلا يكاذبونهم فيما هم فيه ردءًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم .

ندعوكم لقراءة : اعتزال المعصية

– العبرة بعموم اللفظ :

يقول الدكتور عباس شومان وكيل الأزهر الشريف :

إذا سقنا القاعدة المشهورة بين يدى الآية وهى قول أهل العلم : العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فإن الآية تعم أشياء كثيرة فى حياتنا ، ومنها على سبيل المثال :

أن الإنسان إذا نزلت به نازلة أو حلت به مشكلة ، واحتاج إلى السؤال عنها فإنه يسأل عنها أقرب شخص له ، دون أن ينظر لحاله من العلم ؟

وبعض الناس يعتمد على المظاهر ، فإذا رأى من سيماه الخير ظنّ أنه من أهل العلم الذين يستفتى مثلهم !

وكل ذلك غلط بيِّن ، ومخالف لما دلت عليه هذه القاعدة المحكمة : ” فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ “.

ولا أدرى لماذا لا يلجأ أحد هؤلاء حين يمرض إلى أى إنسان فى الشارع فيسأله ؟

ولا فرق بين الصورتين .

ولا أدرى لماذا لا يسلم أحد هؤلاء إذا أصاب سيارته عطل أو تلف إلى أقرب من يمر به ؟

وعلى هذا فإنه حين يطلب تجديد الخطاب الدينى فلا بد من اللجوء إلى أهله المتخصصين ، لا إلى غيرهم .

وليس كل من يتكلم فى الدين عالم ؛ فإن الناس بسبب ضعف إدراكهم ، وقلة تمييزهم يظنون أن كلّ من يتحدث عن الإسلام عالم ، ويمكن استفتاؤه فى مسائل الشرع !

ولا يفرقون بين الداعية أو الخطيب وبين العالم الذى يعرف الأدلة ، ومناطاتها ، فظهر تبعًا لذلك ألوان من الفتاوى الشاذة ، بل الغلط الذى لا يحتمل ، ولا يُقْبَل ، وكثر اتباع الهوى وتتبع الرخص من عامة الناس ، فرقّت أديانهم ، وضعفت عبوديتهم ، بأسباب من أهمها فوضى الفتاوى .

وهذا ما يجعل الإنسان يفهم ويدرك جيدًا خوف العلماء الأثبات ، رحمهم الله ، فى شأن الفتوى وخطورتها ، وهى نصوص ومواقف كثيرة ، منها ما رواه ابن عبد البر رحمه الله : أن رجلًا دخل على ربيعة بن عبد الرحمن شيخ الإمام مالك فوجده بيكي ، فقال له : ما يبكيك ؟ وارتاع لبكائه ، فقال له : أمصيبة دخلت عليك ؟ فقال : لا ، ولكن استفتي من لا علم له !
وظهر فى الإسلام أمر عظيم !
قال ربيعة : ولبعض من يفتي هاهنا أحق بالسجن من السراق .

والمقصود من هذا البيان الموجز : التنبيه على ضرورة تحرى الإنسان فى سؤاله ، وألا يسأل إلا من تبرأ به الذمة ، ومن هو أتقى وأعلم وأورع ، فهؤلاء هم أهل الذكر حقًّا الذين نصت هذه القاعدة على وصفهم بهذا : ” فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ “.

– قاعدة وفائدة :

القاعدة : هي ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ).

والفائدة : هي في هذه الأمور التي نخرج بها من سياق الآيتين في سورتي : النحل والأنبياء ، والتي حددها أحد العلماء في ثماني نقاط ؛ وهي :

1 ـ عموم هذه القاعدة فيها مدح لأهل العلم .

2 ـ وأن أعلى أنواعه : العلمُ بكتاب الله المنزل ، فإن الله أمر من لا يعلم بالرجوع إليهم في جميع الحوادث .

3 ـ أنها تضمنت تعديل أهل العلم وتزكيتهم ، حيث أمر بسؤالهم .

4 ـ أن السائل والجاهل يخرج من التبعة بمجرد السؤال ، وفي ضمن هذا : أن الله ائتمنهم على وحيه وتنزيله ، وأنهم مأمورون بتزكية أنفسهم ، والاتصاف بصفات الكمال .

5 ـ كما أشارت هذه القاعدة إلى أن أفضل أهل الذكر أهلُ هذا القرآن العظيم ، فإنهم أهل الذكر على الحقيقة ، وأولى من غيرهم بهذا الاسم .

6 ـ الأمرُ بالتعلم ، والسؤالُ لأهل العلم ، ولم يؤمر بسؤالهم إلا لأنه يجب عليهم التعليم والإجابة عما علموه .

7 ـ وفي تخصيص السؤال بأهل الذكر والعلم نهي عن سؤال المعروف بالجهل وعدم العلم ، ونهي له أن يتصدى لذلك .

8 ـ وفي هذه القاعدة دليل واضح على أن الاجتهاد لا يجب على جميع الناس ؛ لأن الأمر بسؤال العلماء دليل على أن هناك أقوامًا فرضهم السؤال لا الاجتهاد ، وهذا كما هو دلالة الشرع ، فهو منطق العقل -أيضًا- إذ لا يتصور أحدٌ أن يكون جميع الناس مجتهدين .

– لفظ عام :

يستدل العلماء الربانيون بهذه الآية الكريمة على أن أهل الذكر لفظ عام يشمل كل من يعزى إليه علم ؛ أي أهل الاختصاص في كل فن .

وعلى هذا ، فالواجب على من لم يعلم أن يسأل من يعلم ، كما أمر الله تعالى .

– شفاء العي السؤال :

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ألا سألوا إذ لم يعلموا ؛ فإنما شفاء العي السؤال ».
( رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد ، وصححه الألباني ).

والعيّ هو الجهل .

وقال ابن عبد البر في [ التمهيد ] : يلزم كل مؤمن ومؤمنة إذا جهل شيئًا من أمر دينه أن يسأل عنه . اهـ .

– وسائل التواصل متيسرة :

في دلالة الآية على سؤال أهل العلم وأمره تعالى بذلك ، يقول الخطيب البغدادي في [ الفقيه والمتفقه ] :

أول ما يلزم المستفتي إذا نزلت به نازلة أن يطلب المفتي ليسأله عن حكم نازلته ، فإن لم يكن في محله وجب عليه أن يمضي إلى الموضع الذي يجده فيه ، فإن لم يكن ببلده لزمه الرحيل إليه وإن بعدت داره ، فقد رحل غير واحدٍ من السلف في مسألة . (انتهى)

وفي وقتنا هذا والحمد لله وسائل التواصل مع أهل العلم متيسرة ، وهي أحسن من الزمن السابق .

اللهم فقهنا في أمور ديننا ودنيانا .

زر الذهاب إلى الأعلى