أخفوا أوجاعكم
أخفوا أوجاعكم ..
يقول الله تعالى في كتابه العزيز :
بسم الله الرحمن الرحيم
” كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) “. (مريم : 1- 15)
سورة مريم ، السورة التاسعة عشرة في القرآن الكريم .
بلغ عدد آياتها 98 آية ، ويوجد بها سجدة في الآية رقم 58 ، وتقع في الجزء السادس عشر ، ونزلت بعد سورة فاطر .
والسورة سُميّت على اسم مريم العذراء أم عيسى عليه السلام ، لتكون بذلك السورة الوحيدة في القرآن التي سُميّت على اسم امرأة ؛ فهي سيدة نساء العالمين .
” وَإِذْ قَالَتِ ٱلْمَلَائِكَةُ يٰمَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَـٰكِ وَطَهَّرَكِ وَٱصْطَفَـٰكِ عَلَىٰ نِسَآءِ ٱلْعَـٰلَمِينَ “. (آل عمران : 42)
فهذا نبي الله زكريا عليه السلام ، كان نبيًّا عظيمًا من بني إسرائيل ، وفي صحيح البخاري أنه كان نجارًا ، يأكل من عمل يده في النجارة .
لم يزِد زكريا عليه السلام على أن { نادى ربه نداءً خفيًّا } ، نداءً مشتمِلًا على دعاء ، وكان دعاؤه سِرًّا جوف الليل ؛ لأنه أسرع للإجابة .
أخفى دعاءه ؛ لأنه أحب إلى الله تعالى ، الذي يعلم القلب التقي النقي ، ويسمع الصوت الخفي .
دعا ربه بعد أن أظهر ضعفه وعجزه ؛ وهذا من أحب الوسائل إلى الله عز وجل ؛ ولذلك وهبه الله يحيى الذي لم يجعل له من قبلُ سَمِيًّا .
سبحانه من إله .
ولقدْ كان الهَمْس ليلًا ..
في مكانٍ قَصيٍّ عن سَمعِ النّاس ..
وفُضول النّاس ، وأسئلة الناس !
هَمَس بِحاجَتِه الفِطرية لِمن بيدهِ مَقاليد الأمر ، ومفاتيح الفرَج .
{ فَهبْ لي من لدُنك وليًّا }.
وقدّم في أول الدُّعاء ؛ ضَعفه ؛ فهو الذي { وَهَن العَظم } منه { واشتَعل الرأس شيبًا }.
ستر زكريا النقص ؛ فأتم الله له الأمر على أجمل ما يكون ؛ إذ جاءه يحيى { بَرًا بوالديه }.
لقد بث زكريا عليه السلام الشكوى لربه ؛ فجاءته البشرى : { لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِّيًّا }.
إذ لا يليق بموقفه الذي ليس له مثيل ، إلا طفل ليس له مثيل !
الأنبياء مدرسة في الحياة ، والقرآن هو وثيقةُ الأدب الرفيع .
– المعنى في ضوء التحليل اللغوي :
( للدكتور عبدالكريم الزبيدي )
1 – أقْرَأُ السُّورَةَ بالاسْتِعانَةِ باللهِ المَوْصُوفِ بأنّهُ الرَّحمنُ الذي أتْقَنَ برَحْمَتِهِ خَلْقَ كُلِّ شيءٍ لأداءِ وَظيفَتِهِ التي خَلَقَهُ لأدائِها ، المَوْصُوفِ بأنَّهُ الرَّحِيمُ الذي جَعَلَ وَظيفةَ كُلِّ شيءٍ خَلَقَهُ في حُدُودِ قُدْرَتِهِ واسْتِطاعَتِهِ ، كاف ها يا عين صاد دِلالةٌ على إنْزالِ القرآنِ بعُلومٍ ومعارِفَ إلهِيَّةٍ ، منها عُلومٌ ومعارِفُ إلهِيَّةٌ اخْتَصَّتْ بها آياتُ السُّورَةِ .
2 – هذا ذِكْرُنا إجابةَ ربِّك دعاءَ عبدِهِ ، أي : إجابةَ ربِّك دعاءَ زكريّا .
3 – حين دعا رَبَّهُ دُعاءً خَفِيًّا ( أي : بصوت خفيّ لم يَسْمَعْهُ الناسُ ، لأنّهُ كان في خَلْوَة بينَهُ وبينَ ربِّهِ ).
4 – قال : يا ربِّ ، إنّي ضَعُفْتُ في الأمْرِ والعَمَلِ والبَدَن ، وانْتَشَرَ الشيبُ في رأسي ، وحالي أنّي لم أكنْ فيما مضى من الزمان إلى هذا الوقتِ خائبًا بدعائي إيّاك ، ولا محرومًا من إجابتك دعائي ، ( أي : قد عَوَّدْتني حُسْنَ الإجابة في جميع ما أسألُكَ ).
5 – وإنّي خِفْتُ على الدين بني عمومَتِي الذين يلون أمْرَ الدين من بَعْدِي ، وأتَوَقَّعُ حصولَ ضَرَرٍ على الدين منهم من بعْدِي ، وحالي أنّ امْرَأتي قد وُجِدَتْ حالةَ كونِها عقيمًا لا تَلِدُ ، وليس لي وَلَدٌ يتولّى أمْرَ الدين بعدي ، فأسألك أنْ تُعْطيَني من رحْمَتِك الخاصّةِ وَلَدًا ذَكَرًا يليني في أمْرِ الدين عطاءً بلا عِوَض .
6 – موصوفًا بأنّه يَرِثُني في الولايةِ على الدّين ، ويتولّى جميعَ أموري بعد موتي ، ويَرِثُ جميعَ ما آل إليّ وإلى امْرَأتي من إرْثِ آلِ يعقوب ، وأسْألُك أنْ تَجْعَلَهُ -يا ربِّ- مَرْضِيًّا عندَك بالامْتِثالِ لأمْرِك .
7 – فنادَتْهُ الملائكةُ بالبِشارَةِ بأمْرِ ربِّهِ حالةَ كونِهِ قائمًا مُتلبِّسًا بحال الصّلاة والدُّعاء والتّضَرُّعِ لله في المحرابِ قائلين : يا زكريا ، قالَ ربُّكَ : إنّا نُبشِّرُكَ بوَلَدٍ ذَكَرٍ صفتُهُ أنّ اسْمَهُ يحيى ، صفتُهُ أيضًا أنّا لم نُصَيِّرْ أحَدًا من قَبْلِهِ مُوافقًا له في اسْمِهِ ، ( أي : لم يُسمَّ بهذا الاسم أحدٌ قبله ، ولم نُصَيِّرْ أحَدًا من قبلِهِ نظيرًا له في إتْيانِهِ العِلْمَ والتَّفَقُّهَ في الدين حالةَ كونِهِ صَبيًّا ).
8 – قال زكريّا : يا ربِّ ، على أيِّ حالٍ يُولَدُ لي غُلامٌ وحالي أنّ امْرَأتي قد وُجِدَتْ حالةَ كونِها عقيمًا لا تَلِد ، حالي أيضًا أنّي قد وَصَلْتُ بسَبَبِ الكِبَرِ في السّنِّ حَدَّ الشيخوخَةِ في ضَعْفِ العظام وتصلّبِ المفاصل .
9 – قالتْ الملائكةُ : قال ربُّكَ : أمْرُ خَلْقِ وَلَدٍ من صُلْبِكَ كائنٌ على ذلك الذي أخْبَرْتُكَ به ، يُؤكِّدُ ذلك أنَّ ربّكَ قال : خَلْقُ وَلَدٍ من صُلْبِكَ سَهْلٌ يَسِيرٌ عليّ ، ويُؤكِّدُ ذلك أنّي قد خَلَقْتُك من قبلِ أنْ أخْلُقَ وَلَدًا من صُلْبك حالةَ كونِكَ لم تَكُنْ شيئًا موجودًا .
10 – قال زكريّا : يا ربِّ ، أسألك أنْ تَصْنَعَ لي علامةً على حَمْلِ امْرَأتي بالوَلَدِ ، قالت الملائكةُ : قال ربُّك : علامَتُكَ على حَمْلِ امْرَأتِكَ بالوَلَدِ أنّك لا تَقْدِرُ أنْ تُكَلّمَ الناسَ مُدّةَ ثلاثِ ليال حالةَ كونِك صَحيحًا سليمًا من غيرِ عِلّةٍ ( يدلّ المعنى على أنّ العلامَةَ هي سَلْبُ القُدْرَةِ على الكلامِ مع النّاس ، ولكنّهُ قادرٌ على التسبيح والذِّكْرِ ).
11 – فبَرَزَ زكريّا على قومه من المِحْراب الذي يُصلّي فيه ، فأشارَ وأومَأَ إليهم ، أي : قال لهم بطريقةِ الرَّمْزِ والإشارة : صلّوا لله بتَنْزِيهِهِ وتقديسِهِ عن كُلِّ ما لا يليقُ بعظمتِهِ وربوبيّته ، وتعظيمِهِ في الأوقاتِ من الفَجْرِ إلى طُلوعِ الشّمْسِ ، وفي الأوقات من زوالِ الشمس إلى غروبها ، ومن صلاةِ المغرب إلى العَتَمَة ( يدلّ المعنى على أنّ الصلاة كانت مفروضة على بني إسرائيل في هذه الأوقات ).
12 – فولدتْ امْرَأَتُهُ وَلَدًا ، وأسْماهُ يحيى ، وأوْحَيْنا إليه قولَنا : يا يحيى ، الْزَمْ التّوراةَ ، وتَمَسَّكْ بها ، واعْمَلْ بما جاءَ بها من أحكامٍ ومعارفَ إلهيةٍ حالةَ كونِكَ جادًّا على التَّمَسُّكِ به ، قويًّا على العمَلِ به ، وأعْطيناهُ العِلْمَ والتَّفَقُّهَ في الدين حالةَ كونِهِ صَبيًّا .
13 – وأعطيناهُ رِقَّةَ قَلْبٍ ورَحْمَةً كائنةً من عِنْدنا ، يفيضُ بها على النّاسِ ، وأعطيناه نماءً حَسَنًا في الجِسْمِ والعِلْمِ والخُلُقِ الحَسَن ، وطهارةً في النفْسِ ، وخُلوصًا من المعاصي والذنوب ، ووُجِدَ حالةَ كونِهِ وَرِعًا عن محارمِ الله ، حافظًا نفسَهُ من الذنوب والآثام .
14 – ووُجِدَ في حياتِهِ حالةَ كونِهِ مُتَوَسّعًا في الإحسانِ إلى والديه ، واصلًا لهما ، ولم يُوجَدْ في حياتِهِ مُتَكبِّرًا ، مُسْتعليًا على الناس مُتَسَلّطًا عليهم ، خارجًا عن طاعةِ الله ، مُخالفًا لأوامرِِهِ .
15 – وأمانٌ عليه منّا يومَ وُلِدَ ، وأمانٌ عليه مِنَا يومَ يموتُ ، وأمانٌ عليه منّا يومَ يُبْعَث إلى الحياةِ الآخرةِ حالةَ كونِهِ شهيدًا وشاهدًا .
– مِنْ فَوَائِدِ الآيَاتِ :
• الضعف والعجز من أحب وسائل التوسل إلى الله ؛ لأنه يدل على التَّبَرُؤِ من الحول والقوة ، وتعلق القلب بحول الله وقوته .
• يستحب للمرء أن يذكر في دعائه نعم الله تعالى عليه ، وما يليق بالخضوع .
• الحرص على مصلحة الدين وتقديمها على بقية المصالح .
• تُستَحب الأسماء ذات المعاني الطيبة .