وما ينطق عن الهوى :
نبينا محمد المعلم صلى الله عليه وسلم ، الصادق الأمين ، لا ينطق أبدًا عن الهوى ، إنما هو وحيٌ يُوحى ؛ من قرآن وسنة ، فالقرآن الكريم محفوظ بحفظ رب العالمين ، وكذلك السنة النبوية ؛ وهي ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من “ قول ” ؛ مثل قوله “ إنما الأعمال بالنيات ” ، أو “ فعل ” ؛ كأدائه للصلاة والصوم والحج ، أو “ تقرير ” ، من خلال سكوته أو قبوله واستحسانه لتصرف أو قول جرى بحضرته صلى الله عليه وسلم .
ويُقصد بذلك التشريع ؛ كل هذا وحي رباني ، والدليل عليه قوله تعالى : “ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ”. (النجم : 3-4)
والمقصود بهما أن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الخطأ في تبليغ القرآن الكريم عن الله عز وجل أولًا ، وأنه لا ينطق بالقرآن الكريم بمحض هواه وما يعجبه .
ثانيًا : أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم في شؤون التشريع من غير القرآن الكريم هو من الوحي ؛ قال الإمام البغوي في تفسيره [معالم التنزيل] : “ ( وما ينطق عن الهوى ) ، أي : لا يتكلم بالباطل ، وذلك أنهم قالوا : إن محمدًا صلى الله عليه وسلم يقول القرآن من تلقاء نفسه .. ( إن هو ) ما نطقه في الدين ، وقيل : القرآن ، ( إلا وحي يوحى ) ، أي : وحيٌ من الله يُوحى إليه ”.
فأما عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من الخطأ في تبليغ القرآن ، فهذا جزء من تعهد الله عز وجل بحفظ القرآن الكريم “ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ” (الحجر : 9) ، وكان كفار قريش قد اتهموا النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يكذب عليهم ويدعي أنه رسول وينزل عليه الوحي ، فجاء قوله تعالى : “ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ” (النجم : 1-4) ، فأقسم الله عز وجل بالنجم ، أن محمدًا ليس بضال ( أي الجاهل الذي لا يعلم ) ، وليس بالغوي ( وهو من يعرف الحق ثم يتركه ) ، بل قرر سبحانه وتعالى أن ما يبلغكم به محمد هو وحي مني وليس بهوى من عند نفسه .
وأما أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم في شؤون التشريع وأخبار الغيب وكونه من الوحي ، فهذا يتضح من توقف النبي صلى الله عليه وسلم في الإجابة عن بعض الأسئلة حتى ينزل عليه الوحي بها ، ومن ذلك ما رواه البخاري أن يعلى كان يقول ليتني أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ينزل عليه الوحي .
فلما كان النبي صلى الله عليه وسلم بالجعرانة عليه ثوب قد أظل عليه ومعه ناس من أصحابه ، جاءه رجل متضمخ بطيب فقال : يا رسول الله ، كيف ترى في رجل أحرم في جبة بعدما تضمخ بطيب ؟
فنظر النبي صلى الله عليه وسلم ساعة فجاءه الوحي فأشار عمر إلى يعلى أن تعال ، فجاء يعلى فأدخل رأسه فإذا هو محمر الوجه يغط كذلك ساعة ثم سري عنه فقال : أين الذي يسألني عن العمرة آنفًا ؟
فالتمس الرجل فجيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ” أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات ، وأما الجبة فانزعها ثم اصنع في عمرتك كما تصنع في حجك ” ؛ فقد نزل الوحي بالحكم والإجابة من عند الله عز وجل كما ينزل عليه الوحي بالقرآن الكريم.
وسورة النجم -كما قال أهل التفسير- هي أول سورة أعلن بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهر بقراءتها في الحرم ، والمشركون يستمعون .
وسبب نزولها أن المشركين قالوا إن محمدًا يتقول القرآن ، ويختلق أقواله ، فأنزل الله تبارك وتعالى : ” وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى “. (النجم : 1-4)
فأقسم الله تعالى بهذا المخلوق العظيم -النجم- تشريفًا له ، وتنبيهًا منه ؛ ليكون معتبرًا فيه ، حتى تؤدي العبرة إلى معرفة الله تعالى .
قال السعدي في تفسيره : يقسم الله تبارك وتعالى بالنجم عند هويه أي : سقوطه في الأفق في آخر الليل ، عند إدبار الليل وإقبال النهار ؛ لأن ذلك من آيات الله العظيمة ، الدالة على صحة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الوحي الإلهي ، وفي ذلك مناسبة عجيبة ، فإن الله تعالى جعل النجوم زينة للسماء ، فكذلك الوحي وآثاره زينة للأرض ، فلولا العلم الموروث عن الأنبياء ، لكان الناس في ظلمة أشد من الليل البهيم .
والمقسم عليه ، تنزيه الرسول صلى الله عليه وسلم عن الضلال في علمه ، والغي في قصده ، ويلزم من ذلك أن يكون مهتديًا في علمه ، هاديًا ، حسن القصد ، ناصحًا للأمة ، بعكس ما عليه أهل الضلال من فساد العلم ، وفساد القصد .
قال تعالى : { صَاحِبُكُمْ } لينبههم على ما يعرفونه منه ، من الصدق والهداية ، وأنه لا يخفى عليهم أمره .
{ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى } : أي : ليس نطقه صادرًا عن هوى نفسه .
قال ابن عاشور في التحرير والتنوير : وَهُنَا تَمَّ إِبْطَالُ قَوْلِهِمْ ؛ فَحَسُنَ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ : وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى { إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى } أي : لا يتبع إلا ما أُوحى الله إليه من الهدى والتقوى ، في نفسه وفي غيره . (اهـ من تفسير السعدي وابن عاشور بتصرف يسير)
– يتقارب الزمان :
هيا معًا لنتعرف على حديث رواه الإمامان البخاري ومسلم من أحاديث نبينا محمد الذي لا ينطق عن الهوى ، يقول فيه :
” يَتَقارَبُ الزَّمانُ ، ويَنْقُصُ العَمَلُ ، ويُلْقَى الشُّحُّ ، وتَظْهَرُ الفِتَنُ ، ويَكْثُرُ الهَرْجُ .. قالوا : يا رَسولَ اللَّهِ ، أيُّمَ هُوَ ؟ قالَ : القَتْلُ القَتْلُ “. (رواه البخاري ومسلم)
يُبَيِّنُ النَّبيُّ صَلَّى الله عليه وسلَّم عن بَعْضٍ مِن أشْراطِ السَّاعةِ وعَلاماتِ آخِرِ الزَّمانِ الدَّالَّةِ على إدْبارِ الدُّنيا وانتِهاءِ هَذِه الحَياةِ ، وأَوَّلها تَقارُب الزَّمانِ فَتَقْصُر السُّنونَ والأَعْوامُ والشُّهورُ واللَّيالي والأَيَّامُ ، فَتُصبِح السَّنةُ كالشَّهرِ ، ويَنْقُص العِلمُ بِمَوتِ العُلَماءِ ، أو يُرْفَع العِلمُ النَّافِعُ المُقْتَرِنُ بالعَمَلِ الصَّالِحِ ، ويُلْقى الشُّحُّ ، أي : يَنتشِر البُخلُ الشَّديدُ عَلى اختِلافِ أنْواعِه ، ويَتمكَّن مِن قُلوبِ النَّاسِ حَتَّى يَبخَلَ الغَنيُّ بِمالِه ، ويَبخَلَ العالِمُ بِعِلمِه ، ويَبخَلَ الصَّانِعُ بِصِناعتِه ، وتَظهَر الفِتَنُ ، أي : تَتَكاثَر الأُمورُ الكَريهةُ الَّتي تَضُرُّ النَّاسَ في دينِهم ودُنياهم مِن الخيانةِ والظُّلمِ والحَرائِقِ والزَّلازِلِ وانْتِشار المَعاصي ، ” وَيَكثُر الهَرْج ” ، أي : ويَكثُر قَتلُ النَّاسِ بَعضِهم لِبَعضٍ ظُلمًا وعُدوانًا ؛ لِمُجَرَّدِ هَوى النَّفسِ وإشْباعِ رَغَباتِها الخَبيثةِ ، أو استِجابةً لِبَعضِ الأفْكارِ والآراءِ الهَدَّامةِ الَّتي تَخْدِم أعْداءَهم وهُم لا يَشعُرونَ.
في الحَديثِ : إخْبارُ النَّبيِّ صَلَّى الله عليه وسلَّم عن الغَيبِ ، وذِكرُه بَعضًا مِن عَلاماتِ السَّاعةِ ، وهو عَلامةُ من علاماتِ نُبُوَّتِه صَلَّى الله عليه وسلَّم .
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل ابراهيم ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد .
– مع سورة النجم :
سورة ” النجم ” مكية ، وهي إحدى وستون آية ، وهي مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر .
وقال ابن مسعود : هي أول سورة أعلنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة .
وفي البخاري عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد بالنجم ، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس وعن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم فسجد لها ، فما بقي أحد من القوم إلا سجد ؛ فأخذ رجل من القوم كفا من حصباء أو تراب فرفعه إلى وجهه وقال : يكفيني هذا .
قال عبدالله : فلقد رأيته بعد قتل كافرًا . (متفق عليه)
الرجل يقال له أمية بن خلف .
وفي الصحيحين عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم سورة والنجم إذا هوى فلم يسجد .
اللهم صل وسلم وبارك على من لا ينطق عن الهوى ، وعلى آله وصحبه أجمعين .