من رحيق كلامهم

مقتطفات من مقال

مقتطفات من مقال للشيخ محمد رشيد رضا ، نُشر عام 1316هـ .

– نبذة عن صاحب المقال :

هو محمد رشيد رضا صاحب مجلة «المنار» وأحد رجال الإصلاح الإسلامي ، وهو من الكُتَّاب ، ومن العلماء بالحديث ، والأدب ، والتاريخ ، والتفسير .

تعلم في القلمون وطرابس ، وتنسك ، ونظم الشعر في صباه ، وكتب في بعض الصحف ، ثم رحل إلى مصر سنة 1315هـ ، فلازم الشيخ محمد عبده ، وتتلمذ على يديه ، وكان قد اتصل به قبل ذلك في بيروت .

– أجزاء من المقال :

كيف يهلك الله الشعوب ويبيد الأمم ، وكيف يديل من الدول دولًا وينزع السيادة من قوم ، ويستخلف من بعدهم قومًا آخرين ؟
يقول المسلمون : إنَّ الدين هو الذي كان سبب سيادتهم وسعادتهم ، وإن الإعراض عنه هو الذي أوقعهم في الشقاء وأنزل عليهم البلاء .
ويحتجون بآيات من الكتاب العزيز ، كقوله تعالى : ” أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ” (الأنبياء : 105) .. وقوله تعالى : ” وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ “. (الروم : 47)
حقًّا قالوا ، ولكنَّ أكثرهم يلهج بالقول عن غير فهم ولا بصيرة ، متوهمين أنَّ في الدين سرًّا روحانيًّا غير معقول ، يمدُّ الآخذين به بالنصر والقوة ، ويعطيهم الغلب بالخوارق والكرامات !

  • الرأي الآخر :

يقول الناظرون في سير الإنسان في زمانهم الحاضر والواقفون على تاريخه في الزمن الغابر : إنَّ ضعف الأمم وانحلالها ، وهلاك الشعوب وانقراضها ، وعزة الدول وامتناعها ، وسيادتها وارتفاعها ، كلُّ ذلك جارٍ على نواميس طبيعية ، وسنن إلهية ، لا تغيَّر ولا تحوَّر ولا تبدَّل ولا تحوَّل ، وقد هدى الله بفضله النوع الإنساني النجدين ، وبيَّن له الطريقين ، فمن سار على طريق الترقي والسيادة ، مراعيًا سنن الله تعالى فيهما وصل إليهما ، سواء كان مؤمنًا أم كافرًا ، فالدين لا أثر له في عزة الأمم ولا في ضعفها واستكانتها ، والشاهد على ذلك أنَّ جميع الدول الإسلامية اليوم ضعيفة ، ودولة اليابان الوثنية في أعلى درجات القوة والعزة ، بل إنَّ الأمم المتمدنة تعتقد أنَّ الدين حجاب كثيف يحول دون الارتقاء -لولا أن مزقَّته لما لاح لها نور العلم بطرق السعادة- وقيد ثقيل ، لولا أن فكُّوه لما أمكنهم الإيجاف والإبضاع والتزلل والارتفاع ، ولظلوا يرسفون رسفان ( مشي المقيد ) من لا تزال القيود في أرجلهم ، والأغلال في أعناقهم ، ومن رأي هؤلاء : أنَّ العقبة الكبري في طريق تقدم الدول الإسلامية هو الدين نفسه ، وأنهم إذا مرقوا منه رُجي لهم اتباع خطوات أوروبا وتقدموا كما تقدمت !

ويقول الشيخ : من كان مبغضًا للمسلمين من هؤلاء يسجل عليهم الضعف والانحطاط ، بل يعدهم بالحِمام والموت الزؤام .
ومن يحب المدافعة عنهم لأمر ما يقول : إن فيهم قابلية للنهوض والترقي والأخذ بأساليب المدنية الجديدة التي ساد فيها غيرهم .
هذا ملخص ما يقوله فينا المتمدنون ، ويكتبه في سياستنا الكاتبون ، وقد اشتبه على الدهماء منا حقه بباطله ، ورأى فيه المنحرفون شبهة على بطلان الدين ، وهبوطه بالآخذين به إلى أسفل سافلين ؛ لأنَّ من المشهود الذي لا يمكن إنكاره أنَّ المسلمين أمسوا أفقر الأمم وأكسلها وأجهلها ، ودولهم باتت أضعف الدول وأظلمها .
ولا فرق بينهم وبين جيرانهم يضاف إليه هذا التقهقر والانحطاط إلا في الدين ، فلا جرم أنَّ الناظر في طبائع الملل يضيف ذلك إليه ويقرنه به .

  • كشف الغطاء :

ويدلو الشيخ بدلوه ، فيقول :
إننا نكشف الغطاء عن تحقيق الحق في المسألة ؛ لينجلي الصبح لذي عينين فنقول : قول المسلمين : إنَّ الدين هو الذي كان سبب سيادتهم وسعادتهم ، وإنَّ خسران تلك السيادة والسعادة إنما جاء من الانحراف عن هديه – صحيح ، وقول القائلين : إن الله تعالى قد جعل لارتقاء الأمم سننًا حكيمة من سار عليها فاز ، ومن تنكبها خسر مهما كان دينه – صحيح أيضًا .
وقد غالى كلُّ فريق في رأيه ، فزعم المسلمون أنَّ الانتساب للدين فيه أسرار غير معقولة ، تُعطي أصحابه قوى غيبية تكون بها غلبتهم على من سواهم ، وزعم الآخرون أنَّ الدين لا أثر له في الإسعاد ، بل هو موقع لأربابه في الشقاء ، فأفرط الغالون ، وفرَّط المارقون ، اغترارًا بأُولى المسلمين ، وآخرة الأوروبيين ، ولم تخرج سيادة المسلمين في أول نشأتهم عن نواميس الكون ، إلَّا ما أمدَّ الله به نبيَّه صلى الله تعالى عليه وسلم عند ضعف المسلمين ووهنهم بالمعونة الربانية ، زيادة عن المحافظة على السنن العامة ، وتلك سنته تعالى مع أنبيائه .
ألم ترَ كيف كان الظفر كاملًا والتأييد شاملًا في غزوة بدر ووقعه الأحزاب ونحوهما ، مع قلة المسلمين وضعفهم ، ويوم حنين إذ أعجبتهم كثرتهم ، فلم تُغنِ عنهم شيئًا وولوا مدبرين؟ وكيف انكسروا في وقعة أُحُد ؛ لإخلالهم بالسنَّة الإلهية ، وهي طاعة الرئيس بالحقِّ .

وأمَّا أوروبا فإنَّ الدين لم يكن صادًّا لها عن التقدم ، إلا بما زاد عليه الرؤساء من المنع عن النظر في نواميس الكون ، وسائر الفنون العقلية ، وسلب الاستقلال في الإرادة والرأي ، والحرية في القول والعمل ، بحجة الدين .
فلما اهتدى القوم إلى هذا بما اقتبسوه من الإسلام في حروبهم الصليبية ، أقاموا في ضوئه أساس مدنيتهم ، ولما أحسوا بلذة المدنية ، طفقوا ينسلون من الدين الذي كان مانعًا لهم منها ، ولكن نبذ الدين رماهم بشرور ستضطرهم إلى الرجوع إلى الدين يومًا ما ؛ لأن كمال البشر لا يتمُّ إلا به .

ندعوكم لقراءة : درر من الأقوال

  • الاعتدال :

ويواصل الشيخ كلامه بقوله :
والاعتدال في مسألتنا الذي نريد أن نبينه هو : أنَّ الدين الإسلامي دين الفطرة -لما كان مرشدًا إلى سعادة الدنيا والآخرة معًا- ، بيَّن للناس أنَّ لله في خلقه سننًا حكيمة ، لا تبدَّل ولا تحوَّل ، وهداهم إلى السير عليها ، وشرع لهم من الأحكام ما إن تمسكوا به لن يضلوا عن طرق السعادة أبدًا .

  • إهلاك الأمم :

وقال :
من السنن التي بَيَّنَهَا القرآن بيانًا كافيًا ، وكرَّر القول فيها -سنته تعالى في إهلاك الأمم ، وسقوط الدول- ، قال تعالى : ” وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا “. (يونس : 13)

وقال تعالى : ” وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ” (الإسراء : 16) .. وقال تعالى : ” وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ “. (القصص : 59)
وبيَّن تعالى أنَّ الظلم إذا وقع في أمة يعمُّها العذاب ، وإن لم يواقع الظلم جميع أفرادها ، فقال : ” وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ “. (الأنفال : 25)
والآيات الناطقة بأنَّ الظلم مُؤْذن بهلاك الأمم وفساد العمران كثيرة جدًّا ، وتقابلها الآيات المبينة أنَّ التقوى والصلاح ، والإصلاح والعدل ونحوها من صفات الكمال واقية من حلول البلاء ، وسبب لزيادة النعماء ، وهي كثيرة أيضًا منها : ” أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ” (الأنبياء : 105) .. الصالح في عرف المسلمين من يقوم بحقوق الله وحقوق العباد ، ومنها : ” إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ” (الأعراف : 128) .. وقد صدرنا هذه المقالة بآية كريمة وموعظة حكيمة وهي : ” وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ” (هود : 117) قوله تعالى : ” وَمَا كَانَ رَبُّكَ …” إلخ .
معناه : ما كان من شأنه ذلك ، ولم تجرِ سنته به ، فكلُّ آية مُصدَّرة بذلك فهي قاعدة عامة ، تنبئ عن سنة ثابتة ، وفسَّر الظلم في الآية بالشرك ، وهي نصٌّ على أنَّ إصلاح الناس فيما بينهم مانع من إهلاكهم ، وتسليط الأعداء ، وإن كانوا مشركين بالله تعالى ، وفيها دليل على أنَّ الإيمان بالله من غير إصلاح الأعمال ، وعدل العمال ، لا يمنع الإهلاك ، يؤيده قوله تعالى : ” فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ “. (الأنعام : 48)
وقوله عز وجل : ” وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ “. (النور : 55)
وتأمل قوله : ” كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم ” ؛ ففيه إشارة إلى أنَّ سنته تعالى واحدة ، وأما آية ” وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ” (الروم : 47) فيحمل الإطلاق فيها على التقييد في الآيات الكثيرة أو يراد بالتعريف : التعظيم ، والمراد : المؤمنون الكاملون الذين يقومون بحقوق الإيمان ، على أنَّ الإيمان يُطلق كثيرًا على التصديق والعمل الصالح معًا .

  • سنن إلهية :

أرشد الدين الإسلامي إلى السنن الإلهية ، وأمر بالنظر في الكون والتفكر والاعتبار ، وفصَّل ما تمسُّ إليه الحاجة ، وهدانا إلى أنَّ لكلِّ عمل أثرًا لا يتعدَّاه ، وأنَّ الأسباب مربوطة بمسبباتها ، وكلَّ سبب يفضي إلى غاية ، والأمور الدنيوية لا يمنعها الله عن طلابها ، إذا أتوا البيوت من أبوابها ، والتمسوا الرغائب من طرقها وأسبابها ، سواء كانوا مؤمنين أم كافرين ، وإنما الإيمان شرط للمثوبة في العقبى ، وكمال السعادة في الدنيا ” كُلًا نُّمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا “. (الإسراء : 20)
بهذا كان الدين الإسلامي سببًا في سعادة ذويه وسيادتهم ، عندما كانوا مهتدين بهديه ، ومتمسكين بحبله ، لا بأسرار خفية ، وأمور غير معقولة .

  • جهل المسلمين :

وكان مما قاله الشيخ رشيد رضا ، وختم به :
جهل المسلمين بتعاليم دينهم أفضى بهم إلى التفرق والانقسام ، والميل مع الهوى ، وجهلهم بحالة العصر زادهم عمهًا وحيرة في الدين والدنيا .
ثم لما اتصل بعض أمرائهم وحكامهم بالأوروبيين رأوا أنفسهم مضطرين إلى مجاراتهم وموافقتهم ، فقلدوهم عن غير بصيرة ، فكانوا بذلك عونًا لهم على أنفسهم ، فازدادوا من الأمة بغضًا على بغض الظلم والفسق ، وعجز العلماء والفقهاء عن هدايتهم إلى تعاليم الدين الموافقة لروح العصر ، لعدم وقوفهم على حالة العصر ، على أنَّ الباحثين عن هذه التعاليم نفر قليل في كل قطر ، ولا يكادون يتسامون إلى مراتب الأمراء والسلاطين ، والمتصدرون جهلاء وعن الإصلاح بُعداء ، الجماهير منهم مشغولون بالمباحث اللفظية وأساليب الكتب وخلاف الفقهاء ، والمدعون الإرشاد لا همَّ لهم إلا المفاخرة بالأنساب ، ومناهضة بعضهم بعضًا حسدًا وغواية ، وخداع العامة بأنهم في قصورهم ، وأجدادهم في قبورهم متصرفون في الأكوان! يُشقُون ويُسعدون ، ويُفقرون ويُغنون ، ويحلون ويعقدون ، ويحيون ويميتون ، ويوم القيامة يشفعون فيشفعون ” كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ . كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ “. (المطففين : 14-15)
لأنهم مضلون يقولون على الله الكذب وهم يعلمون .

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى