مع الخليفة المنصور :
هذه بعض النوادر ، وبعض الأزاهير كذلك ، في حياة الخليفة العباسي الثاني ، المؤسس الحقيقي للدولة العباسية ، وباني بغداد .
بويع المنصور بالخلافة في شهر ذي الحجة عام 136 هـ بعد وفاة أخيه أبي العباس عبدالله السفاح ، وكان السفاح أصغر ، ولذلك سبب ، سنأتي عليه إن شاء الله تعالى .
والمنصور هو أبو جعفر عبدالله المنصور بن مُحمد بن عَلي بن عبدالله بن العباس بن عَبْد المُطلّب بن هَاشم القُرشيّ هو الخليفة العشرون من خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم .
– الخليفة العباسي الثاني :
كان أخوه عبدالله السفاح أصغر منه سنًّا ، ولكن تولى الخلافة قبله امتثالًا لوصية أخيهم إبراهيم الإمام ؛ وكان السبب في هذا هو أن أم السفاح عربية حرة ، وكانت أم المنصور أَمَة بربرية تُدعى سلامة .
أبوه وعمه : أبوه محمد بن علي بن عبدالله بن العباس هو الذي نظّم الدعوة العباسية ، وخرج بها إلى حيز الوجود ، واستعان في تحركه بالسرية والكتمان ، والدقة في اختيار الرجال والأنصار والأماكن التي يتحرك فيها الدعاة ، حيث اختار الحميمة والكوفة وخراسان .
وحين نجحت الدعوة العباسية وأطاحت بالدولة الأموية ؛ تولى أبو العباس السفّاح الخلافة سنة ( 132هـ / 750م ) واستعان بأخيه أبي جعفر في محاربة أعدائه والقضاء على خصومه وتصريف شؤون الدولة ، وأرسله كذلك لقتال إسحاق بن مسلم العقيلي في سميساط في الجزيرة الفراتية وأحد قادة مروان بن محمد وكان عند حسن ظنه قدرة وكفاءة فيما تولى ، حتى إذا مرض أوصى له بالخلافة من بعده ، فوليها في ذي الحجة 136هـ / يونيو 754م وهو في الحادية والأربعين من عمره .
بينما عمه عبدالله كان يطمع في الخلافة بعد أبي العباس ، ولما بويع المنصور لم يوافق على ذلك ، فخرج على المنصور في بلاد الشام ، فأرسل له المنصور جيشًا بقيادة أبي مسلم الخراساني الذي استطاع إلحاق الهزيمة به ، وهرب عبدالله ، وبقي متخفيًا ، حتى ظفر به المنصور وسجنه ، فمات في السجن .
- قوة وحزم :
كان أبو جعفر المنصور فحل بنى العباس هيبةً وقوة ، وكان يلبس الخشن ، ويرقع القميص ورعًا وزهدًا وتقوى ، ولم يُرَ في بيته أبدًا لهو ولعب أو ما يشبه اللهو واللعب .
ولم يقف ببابه الشعراء لعدم وصله لهم بالأعطيات كما كان يفعل غيره من الخلفاء .
وهو من أعظم رجال بني العباس ؛ فقد كان في خُلُقِه الجد والصرامة والبعد عن اللهو والترف .
اتصف بالشدة والبأس واليقظة والحزم والصلاح والاهتمام بمصالح الرعية ، وعرف بالثبات عند الشدائد .
ولاشك بأن هذه الصفة كانت من بين أبرز الصفات التي كفلت له النجاح في حكم الدولة العباسية .
- المنصور والطنبور :
قال حماد التركي : كنت واقفًا على رأس المنصور فسمع جلبةً في الدار فقال : ما هذا يا حماد انظر ، فذهبت فإذا خادم له قد جلس بين الجواري وهو يضرب بالطنبور ، وهنّ يضحكن ، فجئت فأخبرته ، فقال : وأي شيء الطنبور ؟ فوصفته له ، فقال له : أصبت صفته ، فما يدريك أنت ما الطنبور ؟
فقال رأيته بخراسان ، ثم قام حتى أشرف عليهم ، فلما بصروا به تفرقوا فأخذ الضارب وكسر الطنبور على رأسه وأخرجه من قصره.
- اقتصاد في النفقات :
عُرِف عن المنصور ميله إلى الاقتصاد في النفقات حتى امتلأت خزائنه بالأموال ، ولم يكن المنصور يعطي الشعراء تلك العطايا البالغة حد السرف وإنما كانت أعطياته أرزاق العمال أيام المنصور 300 درهم ولم يزل الأمر على ذلك إلى أيام المأمون فكان أول من سن زيادة الأرزاق هو الفضل بن سهل .
ندعوكم لقراءة : بين يدي السفاح
- الفصيح :
كان أبو جعفر المنصور فصيحًا عالمًا بالسير والأخبار ؛ والسر في ذلك أنه وُلِد في قرية الحميمة التي تقع في معان جنوب الأردن ، ونشأ بين كبار رجال بني هاشم الذين كانوا يسكنون الحميمة ، فشب فصيحًا عالمًا بالسير والأخبار ، مُلِّمًا بالشعر والنثر .
- أسرع حركة تعداد :
أعلن الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور بأن كل رجل في بغداد مستحق لخمسة دراهم من بيت المال .
توافد الرجال ودوَّنوا أسماءهم وقبضوا دراهمهم ومضوا .
فاستطاع المنصور بذلك إحصاءهم .
بعد شهرين أعلن عن وجوب جباية أربعين درهمًا من كل رجل في بغداد ، فتيسر جمعها وحسابها .
ثم أُنفقت في إصلاح سوق بغداد وسورها وقناطرها .
سجَّل المنصور بذلك أسرع وأدق حركة تعداد عرفها التاريخ تقريبًا .
- قال عنه الذهبي في السير :
كان فحل بني العباس هيبة وشجاعة ، ورأيًا وحزمًا ، ودهاء وجبروتًا ، وكان جَمَّاعًا للمال ، حريصًا ، تاركًا للهو واللعب ، كامل العقل ، بعيد الغور ، حسن المشاركة في الفقه والأدب والعلم .
- وفي السير أيضًا :
قال زهير بن معاوية : حدثنا ميسرة بن حبيب ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، سمع ابن عباس يقول : منا السفاح ، ومنا المنصور ، ومنا المهدي .
( إسناده جيد ).
- مواجهة :
قال أبو العيناء : حدثنا الأصمعي : أن المنصور صعد المنبر ، فشرع ، فقام رجل ، فقال : يا أمير المؤمنين !
اذكر من أنت في ذكره .
فقال : مرحبا ، لقد ذكرت جليلًا ، وخوفت عظيمًا ، وأعوذ بالله أن أكون ممن إذا قيل له : اتق الله ، أخذته العزة بالإثم ، والموعظة منا بدت ، ومن عندنا خرجت ، وأنت يا قائلها فأحلف بالله : ما الله أردت ، إنما أردت أن يقال : قام ، فقال ، فعوقب ، فصبر ، فأهون بها من قائلها ، واهتبلها من الله ، ويلك إني قد غفرتها !
وعاد إلى خطبته كأنما يقرأ من كتاب .
- كلام من ذهب :
قال مبارك الطبري : حدثنا أبو عبيد الله الوزير ، سمع المنصور يقول : الخليفة لا يصلحه إلا التقوى ، والسلطان لا يصلحه إلا الطاعة ، والرعية لا يصلحها إلا العدل ، وأولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة ، وأنقص الناس عقلًا من ظلم من هو دونه .
- يتشبه بهم :
كان المنصور حاكمًا على ممالك الإسلام بأسرها ، سوى جزيرة الأندلس .. وكان ينظر في حقير المال ويثمره ، ويجتهد بحيث إنه خلف في بيوت الأموال من النقدين أربعة عشر ألف ألف دينار ، فيما قيل ، وست مائة ألف ألف درهم ، وكان كثيرًا ما يتشبه بالثلاثة في سياسته وحزمه ، وهم : معاوية ، وعبد الملك ، وهشام .