مع أبي محجن الثقفي

مع أبي محجن الثقفي :

هذه بعض النوادر ، وبعض الأزاهير كذلك ، في حياة أحد الفرسان المسلمين ، والشعراء المخضرمين ، ومن أشهر المدمنين ، وبعد القادسية كان من التائبين .

يرتبط اسم أبي محجن الثقفي بالخمرة ، ويرتبط اسمه كذلك بالفروسية والشجاعة .

هوَ : عَمْرُو بنُ حبيبٍ بن عمرو بن عميْر بن عوف .
كنيته : أبو عبيد .

أمه : كَنود بنت عبدالله بن عبد شمس .

وواضحٌ من اسم أمِّهِ أنَّها من سادات قُريشٍ ( عبد شمس ) ، وهذا يعني حسبًا رفيعًا لأبي محجن الثقفي .

وصفه : أحد الأبطال الشعراء الكرماء في الجاهلية والإسلام .

إسلامه : أسلم في السنة التاسعة للهجرة .

جعله ابن سلام من فحول شعراء الطائف ، وقال : { أبو محجن رجلٌ شاعرٌ شريفٌ }.

شغفه بالخمرةِ بعد إسلامه : رغم إسلامه فإنَّه بادئ ذي بدء لم يتخلَّ عن الخمرة حتَّى جلده عليها عمر بن الخطاب رضي اللهُ عنه وحبسه بسببها .

فارس ثقيف المدمن : قدم مع وفد ثقيف فأسلم ، ولا رواية له ، وكان فارس ثقيف في زمانه إلا أنه كان يدمن الخمر زمان ، وكان أبو بكر -رضي الله عنه- يستعين به وقد جُلِد مرارًا ، وحتى إن عمر نفاه إلى جزيرة ، فهرب ولحق بسعد بن أبي وقاص بالقادسية ، فكتب عمر إلى سعد فحبسه .

مَنْ الفارس ؟!

قال أيوب ، عن ابن سيرين ، قال : كان لا يزال يُجلَد في الخمر ، فلما أكثر سجنوه ، فلما كان يوم القادسية رآهم فكلم أم ولد سعد فأطلقته وأعطته فرسًا وسلاحًا ، فجعل لا يزال يحمل على رجل فيقتله ويدق صلبه ، فنظر إليه سعد فبقي يتعجب ويقول : من الفارس؟
فلم يلبثوا أن هزمهم ورجع وتقيد ، فجاء سعد وجعل يخبر المرأة ويقول : لقينا ولقينا ، حتى بعث الله رجلًا على فرس أبلق لولا أني تركت أبا محجن في القيود لظننت أنها بعض شمائله .
قالت : والله إنه أبو محجن ، وحكت له ، فدعا به وحَلَّ قيوده ، وقال : لا نجلدك على خمر أبدًا ، فقال أبو محجن : وأنا والله لا أشربها أبدًا ، كنت آنف أن أدعها لجلدكم ، فلم يشربها بعد .
روى نحوه أبو معاوية الضرير ، عن عمرو بن مهاجر ، عن إبراهيم بن محمد بن سعد ، عَنْ أَبِيْهِ قَالَ : لَمَّا كَانَ يَوْمُ القَادِسِيَّةِ أتى بأبي محجن سكران ، فقيده سعد ، وذكر الحديث .

لمَّا بدأ القتال ، وقعقعت السيوف ، وضربت الرماح ، ووقعت السهام ، وهُزمت الخيل ، وثار غبار المعركة ، وعلت أصوات الفرسان ، وفُتحت أبواب الجنة ، وطارت أرواح الشهداء ، وأبو محجن يرى ذلك كله ، تحرَّكت أشواقه للموت وللشهادة وللقتال ، فوثَب ليُشارك فأقعده القيد ؛ لشربه الخمر ، فعاد وقد تكسَّرت أشواقه في صدره ، وعانى في داخل صدره ألمًا شديدًا ؛ أن تبدأ المعركة وليس له نصيب فيها ، فعبَّر عن حاله بالشِّعر .

قال أبو محجن :

كفى حزنًا أن ترتدي الخيل بالقنا
وأترك مشدودًا علي وثاقيا

إذا قمت عناني الحديد وغلقت
مصارع دوني قد تصم المناديا

وقد كنت ذا مال كثير وإخوة
وقد تركوني واحدًا لا أخا ليا

وقد شارق جسمي أنني كل شارق
أعالج كبلًا مصمتًا قد برانيا

فلله دري يوم أترك موثقًا
ويذهل عني أثرتي ورجاليا

فلله عهدٌ لا أخيس بعهده
لئن فرجت أن لا أزور الحوانيا

كانت امرأة سعد رضي الله عنه حكيمة وعاقلة ، حينما أطلقت أبا محجن ، وفي المقابل لم يخيِّب أبو محجن رضي الله عنه ظنَّ امرأة سعد حينما أطلقتْه ، بل كان صادقًا في وعده بالعودة إلى القيد مرة أخرى .

توقَّع الناس أنَّ أبا محجن رضي الله عنه ملَك من الملائكة ، جاءهم بمدد من السماء ؛ لأنَّه كان مُتلثِّمًا ، وأخذ يقتل في الفُرْس ، ويصول ويجول .

هذا الصحابي التائب يوجِّه رسالة إلى كل رجل من المسلمين ، إلى كل الذين يظنُّون أن مقارفة بعض الصغائر أو الوقوع في بعض الكبائر ، يعطيهم إجازة من العمل للدِّين مفتوحة إلى يوم الدين .

أبو محجن رضي الله عنه لم يفهَم أن إدمانه للخمر يعطيه عذرًا يتخلَّى به عن العمل للدين .

حُسن التعامل مع صاحب المعصية ، فليس في الإسلام أنَّ فلانًا من الناس قد كُتب عليه الشقاوة أبَدَ الدهر ، بل ربما هذه السيئة التي وقع فيها الشخص ترفعه إلى أحسن مما كان قبلها ؛ بسبب الندم على فعلها ، وكثرة الاستغفار منها ، ومحاوَلة التعويض عنها .

الإنسان يكون له حالات ، إذا وجد من يستحثُّ الإيمان في قلبه ويُحرِّكه فإنه يُقلِع عن المعصية ؛ فهذا أبو محجن رضي الله عنه ، الذي لم يُفِد فيه الضرب ، والجلد ، والحبس ، والقيد ، أفادت فيه كلمة صادقة من سعد ، فيها تقديرٌ لبلائه وجهاده ، حين قال له : لا جَرَمَ ، والله لا حبسناك أبدًا ، فقال : لا جرم وأنا لا شربت الخمرَ أبدًا .

ندعوكم لقراءة : مع الخليفة المنصور

ومن كتاب [ أبو محجن الثقفي – حياته وشعره / للأستاذ سامر خالد ] :

يقول فيه عن شعره :

على الرغم من قلة القصائد التِي نظمها أبو محجن الثقفي ، ولكننا نرى في شعره قوة اللفظ ، وسلاسة العبارة ، والأثر الإسلامي في شعره ، فلم نعد نرى وعورة اللفظ الجاهلي المستمد من البيئة الصحراوية ، ولا تلك الوقفات الطللية والقصائد المطولة التِي تطول مقدماتُها ووصف الأطلال وغيْر ذلك قبْل الغرض الرئيس ، بل المقطعات السريعة التي تناسب حياة الشاعر والتي قضاها بيْن الخمر والفروسية والتوبة ، ونرى كذلك قوة سبك العبارة الجاهلية في شعره ، ومن هنا كان شعره من العلامات المميزة بيْن المخضرمين .

ولعل أشهر أغراضه الشعرية هي الخمرة والفخر والحكمة والغزل .

تحتلُّ الخمرة الصدارة في موضوعاته الشعرية ، بل هي أكثَر الأغراض شيوعًا وغزارةً عنده ، لعل أبا محجن أول رائد في الشعر العربي الإسلامي في وصف الخمر ، سبق في ذلك الخليفة الأموي الوليد بن يزيد ، ومن جاء بعده من أوائل الشعراء العباسيين كأبي نواسٍ وغيْره ، وفيها تدلهٌ وتعلقٌ غريبٌ يبلغ حد القولِ :

إذا متُّ فادفنِّي إلى أصل كرمةٍ … تروِّي عظامي بعد موتِي عروقُها

ولا تدفننِّي فِي الفَـلاة فإننِّي … أخَـافُ إذا ما متُّ ألَّا أذوقُها

ليُروى بِخمر الحصِّ لحمِي فإنَّنِي … أسيْرٌ لَهَا منْ بعدِ ما قدْ أسوقُها

أباكرُها عنـد الشروقِ تـارةً … يُعاجِـلَنِي بعد العَـشيِّ غبوقُها

وللكأس والصهباءِ حظٌّ مُـنعمُ … فَمِنْ حقِّها ألاَّ تُضاعَ حقوقُها

نراهُ هنا يخشى أن يدركه الموت فيفارق الخمرة التي تغلغلت في نفسه وأوشكتْ على دمارِ روحهِ ، ويرجو من دافنه ألا يدفنه في فلاةٍ مقفرةٍ لا ينبت فيها زرعٌ ، بل عند أصلِ كرمةٍ ومنها يُصنع الخمرُ ، وذلك ليشربَها عن إشراقِ الصباح ، وعند الغبوق ( شرب العشيِّ ) ، فهذه الكأس حقها على صاحبها ألاَّ يضيعها .

ولعل هذا الوله بِها كان سبب مأساته حتَّى أقلع عنها بعد معركة القادسيةِ ، وله فيها فلسفةُ غريبةٌ ففي سيرة حياته أنَّه عندما جلده عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، أنَّه لم يرَ فيها سببًا للتحريم في القرآن الكريْم ، بل اعتبَرها من الصالحات .

فالخمرة إذًا كانت عصب حياته ، رغم علمه أنَّ الإسلام قد حرَّمها عليه من بعد نقاشٍ معه مع علي بن أبي طالبٍ رضي الله عنه .

الحكمة في شعره :

تعبر الأبيات التالية عن حكمة وتوبة عن تعاطي الخمر ، فها هو بستغفر ربه الغفور الرحيم ، ويتعهد له سبحانه وتعالَى ألا يعود لها من جديدٍ بعدما فرغ منها ، فتراه يقول :

أتُـوبُ إِلى الله الرحـيْـم فإنَّـه … غـفورٌ لذنبِ المرءِ ما لم يُــعاودِ

ولستُ إِلى الصَّهباءِ ما عِشتُ عائدًا … ولا تـابعًا قولَ السفــيهِ المُعاندِ

وكيفَ وقدْ أعطيْتُ ربِّي مَـواثِـقًا … أعودُ لها وذو العرشِ شــاهدي

سَـأتركُها مـذمومـةً لا أذوقُـها … وإن رغمت فيها أنوف حواسدي

ولله دره وهو يقول :

ألَم تَرَ أنّ الدهر يَعثُرُ بالفتَـى … ولا يستطيعُ المرءُ صَرفَ المقادِرِ

صَبَرتُ فلم أجزَع ولم أكُ طائعًا … لحادثِ دَهرٍ في الحكومةِ جائرِ

فهو صبورٌ جَلْدٌ على ما يفعله الدهر ، وليس هو الذي يَجزعُ لحوادث الزمانِ التِي غلبتْ عليهِ وجاءتْهُ غصبًا عنه .

نكرر ما ذكرناه من قبل ؛ وذلك لجماله ، وقوته ، ومعانيه ، وتأثيره في قارئيه ، فأبياتَ أبي محجن في التوبة وهو في السجن في معركة القادسية ، من أعظم الأبيات الدالة على الندم والحسرة على ما فات ، وخاصةً حين تغلي في عروقه روح الفروسية ، والشوق للقتال والجهاد ، ومن هنا يتذكر ما فرَّط في حقِّ نفسه ، ويعاهد ربه بالتوبة في حال انفرجتْ وخرج من سجنه ، فيقول :

كفى حزنًا أن تُرديَ الخيل بالقَـنا … وأترك مشدودًا علىَّ وثـاقيا

إذا قمت عن نار الحديد وغُلِّقَـت … مصاريع دوني قد تصمُّ المناديا

وقد كنت ذا مال كثيْرٍ وأخــوة … فقد تركوني واحدًا لا أخَ ليا

فلله عهد لا أخـيْسُ بِـعَـهْـده … لأن فرجت ألا أزورَ الحوانيا

هَلُـمَّ سـلاحِـي لا أبا لكَ إنَّنِي … أرى الحربَ لا تزدادُ إِلا تماديا

فالحكمةُ عند أبي محجن الثقفي مستمدةٌ من واقعه الذي يَحياهُ ، ومن بطولته في ساحة القتال ، ومن توبته عن معصية الخمر التِي كادتْ تتلف بدنه وروحه .

لله درك أبا محجن .

رحمك الله ، وغفر لك ، وجزاك عن الإسلام والمسلمين كل خير .

Exit mobile version