لله طلاقة القدرة
لله طلاقة القدرة :
ربنا الله ، جلَّ في علاه ، له طلاقة القدرة ، فأمره سبحانه وتعالى بين الكاف والنون ، في الحركة والسكون ، في السر والعلانية والمكنون ، إذا أراد شيئًا أن يقول له : ” كن ” فيكون .
ومن ذلك الإماتة والإحياء ، والبعث والنشور .
فإعادته للأموات ، فرد من أفراد خلقه ، ولهذا قال : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا } نكرة في سياق الشرط ، فتعم كل شيء .
{ أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } ؛ أي : في الحال من غير تمانع .
يقول الله تبارك وتعالى :
” إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ “. (سورة يس : 82)
- أمن وطمأنينة :
التعلق بالله الذي يقول للشيء : كُنْ ؛ فيكون ، هو الأمن الذي لا يصحبه خوف ، والطمأنينة التي لا يشوبها قلق ، والتوفيق الذي لا ينقطع .
ما دام الله معك لا تخف ، ما دام الله يحفظك لا تحزن على أحد أهملك ، ما دام الله يريد لك شيئًا فلن يقف في وجهك شيء أبدًا .
سبحانه ، له طلاقة القدرة .
” فالله خيرٌ حافظًا وهو أرحم الراحمين “.
- كل المخاوف تتبدد :
لله در الشاعر عمر اليافي القائل :
وإذا العناية لاحظتك عيونُها … لا تخشَ من بأسٍ فأنت تصانُ
وبكلّ أرضٍ قد نزلت قفارها … نم فالمخاوف كلّهنَّ أمانُ
واصطد بها العنقاء فهي حبائلٌ … واطعن بها الأعداء فهي سنانُ
وافتح كنوز الأرض فهي غرائمٌ … واقتد بها الجوزاء فهي عنانُ
- سؤال وجواب :
سُئل الإمام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- عن قوله تعالى : {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} فإن كان المخاطب موجودًا فتحصيل الحاصل محال ، وإن كان معدومًا فكيف يتصور خطاب المعدوم ؟ فأجاب رحمه الله : بأن هذه المسألة ( مَبْنِيَّة على أصلين : أَحدهمَا : الْفرق بَين خطاب التكوين الَّذِي لَا يطْلب بِهِ سُبْحَانَهُ فعلًا من الْمُخَاطب ، بل هُوَ الَّذِي يكون الْمُخَاطب بِهِ ويخلقه بِدُونِ فعل من الْمُخَاطب أَو قدرَة أَو إِرَادَة أَو وجود لَهُ ، وَبَين خطاب التَّكْلِيف الَّذِي يطْلب بِهِ من الْمَأْمُور فعلًا أَو تركًا يَفْعَله بقدرة وَإِرَادَة ، وَإِن كَانَ ذَلِك جَمِيعه بحول الله وقوته إِذْ لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه ، وَهَذَا الْخطاب قد تنَازع فِيهِ النَّاس هَل يَصح أَن يُخَاطب بِهِ الْمَعْدُوم بِشَرْط وجوده أم لَا يَصح أَن يُخَاطب بِهِ إِلَّا بعد وجوده ؟
ولَا نزاع بَينهم أَنه لَا يتَعَلَّق بِهِ حكم الْخطاب إِلَّا بعد وجوده ، وَكَذَلِكَ تنازعوا فِي الأول هَل هُوَ خطاب حَقِيقِيّ أَو هُوَ عبارَة عَن الاقتدار وَسُرْعَة التكوين بِالْقُدْرَةِ ؟ وَالْأول هُوَ الْمَشْهُور عِنْد المنتسبين إِلَى السّنة .. وَالْأَصْل الثَّانِي : أَن الْمَعْدُوم فِي حَال عَدمه هَل هُوَ شَيْء أم لَا ؟
وَالَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِير النَّاس وَهُوَ قَول متكلمة أهل الْإِثْبَات والمنتسبين إِلَى السّنة وَالْجَمَاعَة أَنه فِي الْخَارِج عَن الذِّهْن قبل وجوده لَيْسَ بِشَيْء أصلًا وَلَا ذَات وَلَا عين ، وَأَنه لَيْسَ فِي الْخَارِج شَيْئَانِ : أَحدهمَا حَقِيقَة ، وَالْآخر وجوده الزَّائِد على حقيقته ، فَإِن الله أبدع الذوات الَّتِي هِيَ الماهيات ، فَكل مَا سواهُ سُبْحَانَهُ فَهُوَ مَخْلُوق ومجعول ومبدع ومبدو لَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .
وَقَوله تَعَالَى : {إِنَّمَا قَوْلنَا لشَيْء إِذا أردناه أَن نقُول لَهُ كن فَيكون} ، ذَلِكَ الشَّيْء هُوَ مَعْلُوم قبل إبداعه وَقبل تَوْجِيه هَذَا الْخطاب إِلَيْهِ ، وَبِذَلِك كَانَ مُقَدرًا مقضيًا ، فَإِن اللهَ سُبْحَانَه وَتَعَالَى يَقُول وَيكْتب ممَا يُعلمهُ مَا شَاءَ ؛ كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ مُسلم فِي صَحِيحه عَن عبدالله بن عمرو : أَن الله قَدَّر مقادير الْخَلَائق قبل أَن يخلق السَّمَوَات وَالْأَرْض بِخَمْسِينَ ألف سنة .
وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن عمرَان بن حُصَيْن عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ :
” كَانَ الله وَلم يكن شَيْء مَعَه ، وَكَانَ عَرْشه على المَاء ، وَكتب فِي الذّكر كل شَيْء ثمَّ خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض “.
وَفِي سنَن أبي دَاوُد وَغَيره عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ : ” أول مَا خلق الله الْقَلَم ، فَقَالَ لَهُ : اكْتُبْ .. فَقَالَ : مَا أكتب ؟ قَالَ : مَا هُوَ كَائِن إِلَى يَوْم الْقِيَامَة “.
إِلَى أَمْثَال ذَلِك من النُّصُوص الَّتِي تبين أَن الْمَخْلُوق قبل أَن يُخلَق كَانَ مَعْلُومًا مخبرًا عَنهُ مَكْتُوبًا فِيهِ شَيْء بِاعْتِبَار وجوده العلمي الكلامي الْكِتَابِيّ ، وَإِنْ كَانَتْ حَقِيقَتُهُ الَّتِي هِيَ وُجُودُهُ الْعَيْنِيُّ لَيْسَ ثَابِتًا فِي الْخَارِجِ بَلْ هُوَ عَدَمٌ مَحْضٌ وَنَفْيٌ صِرْفٌ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْخِطَابُ مُوَجَّهًا إلَى مَنْ تَوَجَّهَتْ إلَيْهِ الْإِرَادَةُ وَتَعَلَّقَتْ بِهِ الْقُدْرَةُ وَخلق وكوّن ؛ كَمَا قَالَ : {إنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فَاَلَّذِي يُقَالُ لَهُ : كُنْ هُوَ الَّذِي يُرَادُ وَهُوَ حِينَ يُرَادُ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ لَهُ ثُبُوتٌ وَتَمَيُّزٌ فِي الْعِلْمِ وَالتَّقْدِيرِ ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا تَمَيَّزَ الْمُرَادُ الْمَخْلُوقُ مِنْ غَيْرِهِ ، وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَوَابُ عَنْ التَّقْسِيمِ ، فَإِنَّ قَوْلَ السَّائِلِ : (إنْ كَانَ الْمُخَاطَبُ مَوْجُودًا فَتَحْصِيلُ الْحَاصِلِ مُحَالٌ) ، يُقَالُ لَهُ : هَذَا إذَا كَانَ مَوْجُودًا فِي الْخَارِجِ وُجُودَهُ الَّذِي هُوَ وُجُودُهُ وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمَعْدُومَ لَيْسَ مَوْجُودًا وَلَا هُوَ فِي نَفْسِهِ ثَابِتٌ ، وَأَمَّا مَا عُلِمَ وَأُرِيدَ وَكَانَ شَيْئًا فِي الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالتَّقْدِيرِ فَلَيْسَ وُجُودُهُ فِي الْخَارِجِ مُحَالًا ؛ بَلْ جَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ لَا تُوجَدُ إلَّا بَعْدَ وُجُودِهَا فِي الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ .
وَقَوْلُ السَّائِلِ : (إنْ كَانَ مَعْدُومًا فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ خِطَابُ الْمَعْدُومِ) يُقَالُ لَهُ : أَمَّا إذَا قُصِدَ أَنْ يُخَاطَبَ الْمَعْدُومُ فِي الْخِطَابِ بِخِطَابِ يَفْهَمُهُ وَيَمْتَثِلُهُ فَهَذَا مُحَالٌ ؛ إذْ مِنْ شَرْطِ الْمُخَاطَبِ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ الْفَهْمِ وَالْفِعْلِ ، وَالْمَعْدُومُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَفْهَمَ وَيَفْعَلَ فَيَمْتَنِعُ خِطَابُ التَّكْلِيفِ لَهُ حَالَ عَدَمِهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُطْلَبُ مِنْهُ حِينَ عَدَمِهِ أَنْ يَفْهَمَ وَيَفْعَلَ ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا يَمْتَنِعُ أَنْ يُخَاطَبَ الْمَعْدُومُ فِي الْخَارِجِ خِطَابَ تَكْوِينٍ بِمَعْنَى أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ شَيْءٌ ثَابِتٌ فِي الْخَارِجِ وَأَنَّهُ يُخَاطَبُ بِأَنْ يَكُونَ ، وَأَمَّا الشَّيْءُ الْمَعْلُومُ الْمَذْكُورُ الْمَكْتُوبُ إذَا كَانَ تَوْجِيهُ خِطَابِ التَّكْوِينِ إلَيْهِ مِثْلَ تَوْجِيهِ الْإِرَادَةِ إلَيْهِ فَلَيْسَ ذَلِكَ مُحَالًا بَلْ هُوَ أَمْرٌ مُمْكِنٌ بَلْ مِثْلُ ذَلِكَ يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ فَيُقَدِّرُ أَمْرًا فِي نَفْسِهِ يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَهُ وَيُوَجِّهُ إرَادَتَهُ وَطَلَبَهُ إلَى ذَلِكَ الْمُرَادِ الْمَطْلُوبِ الَّذِي قَدَّرَهُ فِي نَفْسِهِ وَيَكُونُ حُصُولُ الْمُرَادِ الْمَطْلُوبِ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى حُصُولِهِ حَصَلَ مَعَ الْإِرَادَةِ وَالطَّلَبِ الْجَازِمِ ، وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا لَمْ يَحْصُلْ ، وَقَدْ يَقُولُ الْإِنْسَانُ لِيَكُنْ كَذَا وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ صِيَغِ الطَّلَبِ فَيَكُونُ الْمَطْلُوبُ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ ، فَإِنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ . انتهى .
ندعوكم لقراءة : عظمة الملك وقدرته
- الخوف من الله :
كل المخاوف تجلب لنا الهموم إلا الخوف من الله ، فإنه يجلب لنا أعظم شيء وهو نجاتنا في الدنيا والآخرة .
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله :
{ ورُبَّ ذنب قد هاج لصاحبه من الخوف والإشفاق والوجل والإنابة والمحبة والإيثار والفرار إلى الله ، ما لا يهيجه له كثير من الطاعات ، وكم من ذنب كان سببًا لاستقامة العبد ، وفراره إلى الله ، وبُعدِه عن طُرق الغيّ }.
( مفتاح دار السعادة ).