ربنا الله ﷻ

لا يأتي إلا بخير

لا يأتي إلا بخير :

ربنا المنعم المتفضل علينا بنعمه الكثيرة التي لا تُحصَى ولا تُعَدّ ، لا يأتي إلا بالخير ، لنا وللغير ، يرزقنا كما يرزق الطير ؛ تغدو خماصًا ، وتروح بطانا .

فالحمد لله رب العالمين ، المتفضل على الناس أجمعين ، وخصوصًا المؤمنين الموحدين .

فلله الحمد الكثير أن جعلنا مسلمين ، تابعين لخير المرسلين ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .

نرى بأم رؤوسنا شرًّا يرحل ، ونرى في إثره خيرًا يأتي ، وسيئًا يذهب ، وجميلًا يأتي ، وأبوابًا تُغلق في وجوهنا ، ثم يفتح الله لنا أفضل منها !

وكل شيء عنده بمقدار ، لا إله إلا هو العزيز الغفار .

ربّ الخير لا يأتي إلا بالخير .

لطفه يجري ، ونحن لا ندري .

  • الله يعلم ونحن لا نعلم :

قال الله الملك الحق :
” كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡقِتَالُ وَهُوَ كُرۡهٞ لَّكُمۡۖ وَعَسَىٰٓ أَن تَكۡرَهُواْ شَيۡـٔٗا وَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۖ وَعَسَىٰٓ أَن تُحِبُّواْ شَيۡـٔٗا وَهُوَ شَرّٞ لَّكُمۡۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ “. (البقرة : 216)

قال العالم العلامة ابن عاشور :

وقوله : { وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم } تذييل احتيج إليه لدفع الاستغراب الناشئ عن قوله : { كتب عليكم القتال وهو كُره لكم } ، لأنه إذا كان مكروهًا فكان شأن رحمة الله بخلقه ألا يكتبه عليهم فذيل بهذا لدفع ذلك .

وجملة { وعسى } معطوفة على جملة { كتب عليكم القتال } ، وجملة { وهو خير لكم } : حالية من { شيئًا } على الصحيح من مجيء الحال من النكرة ، وهذا الكلام تلطف من الله تعالى لرسوله والمؤمنين ، وإن كان سبحانه غنيًّا عن البيان والتعليل ، لأنه يأمر فيُطاع ، ولكن في بيان الحكمة تخفيفًا من مشقة التكليف ، وفيه تعويد المسلمين بتلقي الشريعة معللة مذللة فأشار إلى أن حكمة التكليف تعتمد المصالح ودرء المفاسد ، ولا تعتمد ملاءمة الطبع ومنافرته ، إذ يكره الطبع شيئًا وفيه نفعه وقد يحب شيئًا وفيه هلاكه ، وذلك باعتبار العواقب والغايات ، فإن الشيء قد يكون لذيذًا ملائمًا ولكن ارتكابه يفضي إلى الهلاك ، وقد يكون كريهًا منافرًا وفي ارتكابه صلاح .. وشأن جمهور الناس الغفلة عن العاقبة والغاية أو جهلهما ، فكانت الشرائع وحملتها من العلماء والحكماء تحرض الناس على الأفعال والتروك باعتبار الغايات والعواقب .

فإن قلت : ما الحكمة في جعل أشياء كثيرةٍ نافعةٍ مكروهةً ، وأشياء كثيرةٍ ضارةٍ محبوبةً ، وهلا جعل الله تعالى النَّافعَ كلَّه محبوبًا والضار كلَّه مكروهًا فتنساقَ النفوسُ للنافع باختيارها وتجتنب الضار كذلك فنُكفى كلفة مسألة الصلاح والأصلح التي تناظر فيها الأشعري مع شيخه الجبائي وفارق الأشعري من أجلها نحلة الاعتزال ؟

  • النعمة من الله :

قال الله تعالى في محكم التنزيل :
” وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ “. (النحل : 53)

قال الإمام الطبري في تفسيره :

وتأويل الكلام : ما يكن بكم في أبدانكم أيها الناس من عافية وصحة وسلامة ، وفي أموالكم من نماء ، فالله المنعم عليكم بذلك لا غيره ، لأن ذلك إليه وبيده ( ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ ) يقول : إذا أصابكم في أبدانكم سَقَم ومرض ، وعلة عارضة ، وشدّة من عيش ( فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ) يقول : فإلى الله تصرخون بالدعاء وتستغيثون به ؛ ليكشف ذلك عنكم ، وأصله : من جؤار الثور ، يقال منه : جأر الثور يجأر جؤارا ، وذلك إذا رفع صوتًا شديدًا من جوع أو غيره ،
ومنه قول الأعشى :

وَمـــا أيْبُـــلِيٌّ عَــلى هَيْكَــلِ … بَنــاهُ وَصَلَّــبَ فِيــهِ وصَــارَا

يُــرَاوِحُ مِــنْ صَلَــوَاتٍ المَـلِيـ … كِ طَـوْرًا سُـجُودًا وَطَـوْرًا جُـؤْارًا

يعني بالجؤار : الصياح ، إما بالدعاء ، وإما بالقراءة . انتهى.

فإن كنت -يا عبدالله يا مسلم- في ” حيرة ” مما أنت فيه ، فلا تقلق ؛ فلعل فوق ” الحاء ” نقطة لم ترها !

فالله تعالى لا يأتي إلا بخير ، فأحسن ظنك بخالقك ؛ قال الله تعالى : ” وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ” ؛ فليست أيام الشدة فقط هي الفتنة ، بل أيام الرخاء كذلك ، ينظر الله تعالى إليك ما تصنع فيها .

لا تيأس ؛ ﻷن الحياة بحر من الأحداث غيرالمتوقعة ، والأحوال فيها تجري بتدبير الكبير الخبير سبحانه وتعالى ، وليس حسب مخاوفك .

لا تيأس ولا تستسِلم ؛ لأن المُدبر سيُدبر أمرك ويعتنِي بشؤونك ، وإن أُغلقت الأبواب أمامك ، سيفتح الفتّاح لك أبوابًا أخرى لم تكن في حسبانك .

سيُسخر لك أناسًا من خلقِه ، سيجبرك ويُعوضك ما كان فقدهِ يؤلم ويكسر قلبك ، لذا تفاءل وأبشر وأحسن ظنُك بربك .

ندعوكم لقراءة : الله لطيف بعباده

  • ناصيتي بيده :

من أروع الجُمل التي تبعث الطمأنينة في نفوسنا : قول المعلم صلى الله عليه وسلم :
‏” ناصيتي بيدك ، ماضٍ فيَّ حكمك ، عدلٌ فيَّ قضاؤك “.
وسلام واستسلام ، ‏وتسليم وطمأنينة ورضا .

  • شِعْرٌ وشِعر :

أشَعر المتنبي فقال :

أَوَدُّ مِنَ الأَيّامِ مالا تَوَدُّهُ … وَأَشكو إِلَيها بَينَنا وَهيَ جُندُهُ

فعارض محمود البارودي المتنبي بقوله :

رَضِيتُ مِنَ الدُّنْيَا بِمَا لا أَوَدُّهُ … وَأَيُّ امْرِئٍ يَقْوَى عَلَى الدَّهْرِ زَنْدُهُ

  • القتال من البأساء :

وفي ذلك يقول ابن عاشور في التحرير والتنوير :
المناسبة أن القتال من البأساء التي في قوله : { ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء } [البقرة : 214] فقد كلفت به الأمم قبلنا ، فقد كلفت بنو إسرائيل بقتال الكنعانيين مع موسى عليه السلام ، وكُلِّفوا بالقتال مع طالوت وهو شاول مع داود ، وكُلف ذو القرنين بتعذيب الظالمين من القوم الذين كانوا في جهة المغرب من الأرض .

ولفظ { كُتب عليكم } من صيغ الوجوب .

وآل في ( القتال ) للجنس ، ولا يكون القتال إلا للأعداء فهو عام عمومًا عرفيًّا ؛ أي كُتب عليكم قتال عدو الدين .. والخطاب للمسلمين ، وأعداؤهم يومئذ المشركون ، لأنهم خالفوهم في الدين وآذوا الرسول والمؤمنين ، فالقتال المأمور به هو الجهاد لإعلاء كلمة الله ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم غير مأذون في القتال في أول ظهور الإسلام ، ثم أُذن له في ذلك بقوله تعالى : { أُذِن للذين يقاتلون بأنهم ظُلموا } [الحج : 39] ، ثم نزلت آية قتال المبادئين بقتال المسلمين في قوله تعالى : { وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم } [البقرة : 190].

هذه الآية نزلت في واقعة سرية عبدالله بن جَحش ، وذلك في الشهر السابع عشر من الهجرة ، فالآية وردت في هذه السورة مع جملة التشريعات والنظم التي حوتها كقوله : { كُتب عليكم الصيام } [البقرة : 183] ، { كُتب عليكم القصاص } [ البقرة : 178 ] ، { كُتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت } [البقرة : 180] .. فعلى المختار يكونُ قوله : { كُتب عليكم القتال } خبرًا عن حكم سبق لزيادة تقريره ولينتقل منه إلى قوله { وهو كره لكم } الآية ، أو إعادة لإنشاء وجوب القتال زيادة في تأكيده ، أو إنشاءً أُنُفًا لوجوب القتال إن كانت هذه أول آية نزلت في هذا المعنى بناء على أن قوله تعالى : { أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا } ؛ إذْن في القتال وإعداد له وليست بموجبة له .

  • الكُرْه والكَرْه :

وقوله : { وهو كُرهٌ لكم } ، حال لازمة وهي يجوز اقترانها بالواو ، ولك أن تجعلها جملة ثانية معطوفة على جملة : { كُتب عليكم القتال } ، إلا أن الخبر بهذا لما كان معلومًا للمخاطبين تعين أن يكون المراد من الإخبار لازم الفائدة ، أعني كتبناه عليكم ونحن عالمون أنه شاق عليكم ، وربما رجح هذا الوجه بقوله تعالى بعد هذا : { والله يعلم وأنتم لا تعلمون }.

والكُره بضم الكاف : الكراهية ونفرة الطبع من الشيء ، ومِثله الكَره بالفتح على الأصح ، وقيل : الكُره بالضم المشقة ونفرة الطبع ، وبالفتح هو الإكراه وما يأتي على الإنسان من جهة غيره من الجبر على فعل مَّا بأذى أو مشقة ، وحيث قُرىء بالوجهين هنا وفي قوله تعالى : { حملته أمه كُرها ووضعته كُرها } [الأحقاف : 15] ولم يكن هنا ولا هنا لك معنى للإكراه تعين أن يكون بمعنى الكراهية وإباية الطبع كما قال الحماسي العُقَيلي :

… بكُره سراتنا يا آل عمرو

نُغاديكم بمُرْهَفَة النِّصَال …

رووه بضم الكاف وبفتحها .

على أن قوله تعالى بعد ذلك { وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم } الوارد مورد التذييل : دليل على أن ما قبله مصدر بمعنى الكراهية ليكون جزئيًا من جزئيات أن تكرهوا شيئًا .

  • الاختيار لله :

اختيار الله لك هو الأفضل -فربّ الخير لا يأتي إلا بالخير- ؛ لأنه سبحانه وبحمده هو الأعلم ؛ فلا يحل لمن يؤمن بالله إذا قضى الله جل في علاه أمرًا أن يختار من أمر نفسه ما شاء ، وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم ، بل يجب عليه أن يذعن للقضاء ويوقف نفسه تحت ما قضاه الله واختاره له .

والخيرة مصدر بمعنى الاختيار .

قال الله تبارك وتعالى :
” وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا “. (الأحزاب : 36)

زر الذهاب إلى الأعلى