ففهمناها سليمان :
روى البخاري (1131) ومسلم (1159) عن عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضى الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ : ” أَحَبُّ الصَّلاَةِ إِلَى اللَّهِ صَلاَةُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ ، وَكَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ ، وَيَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا “.
هكذا شهد له إمام الأنبياء .
أما سليمان عليه السلام ، فقد تميز في القضاء ، عَلَّمه رب الأرض والسماء .
نبي الله سليمان ، كان من الذكاء بمكان ، عَلَّمَه الرحيم الرحمن ، الكريم المَنَّان ؛ فكان يفتي بإتقان ، ويتعامل بإحسان .
قال الله عز وجل :
” وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ * فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًا آتَيْنا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ “. (الأنبياء : 78-79)
- يقول العلامة عبد الرحمن السعدي رحمه الله :
أي : واذكر هذين النبيين الكريمين : داود وسليمان مثنيًا مبجلًا ، إذ آتاهما الله العلم الواسع والحكم بين العباد ، بدليل قوله : { إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ } ؛ أي : إذ تحاكم إليهما صاحب حرث ، نفشت فيه غنم القوم الآخرين ، أي : رعت ليلًا ، فأكلت ما في أشجاره ، ورعت زرعه ، فقضى فيه داود عليه السلام ، بأن الغنم تكون لصاحب الحرث ، نظرًا إلى تفريط أصحابها ، فعاقبهم بهذه العقوبة ، وحكم فيها سليمان بحكم موافق للصواب ، بأن أصحاب الغنم يدفعون غنمهم إلى صاحب الحرث فينتفع بدرها وصوفها ويقومون على بستان صاحب الحرث ، حتى يعود إلى حاله الأولى ، فإذا عاد إلى حاله ، ترادا ورجع كل منهما بما له ، وكان هذا من كمال فهمه وفطنته عليه السلام .
{ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } ؛ أي : فهمناه هذه القضية ، ولا يدل ذلك ، أن داود لم يفهمه الله في غيرها ، ولهذا خصها بالذكر بدليل قوله : { وَكُلَا } من داود وسليمان { آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } وهذا دليل على أن الحاكم قد يصيب الحق والصواب وقد يخطئ ذلك ، وليس بمعلوم إذا أخطأ مع بذل اجتهاده .
ثم ذكر ما خص به كلًا منهما فقال : { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ } وذلك أنه كان من أعبد الناس وأكثرهم لله ذكرًا وتسبيحًا وتمجيدًا ، وكان قد أعطاه من حسن الصوت ورقته ورخامته ، ما لم يؤته أحدًا من الخلق ، فكان إذا سبَّح وأثنى على الله ، جاوبته الجبال الصم والطيور البهم ، وهذا فضل الله عليه وإحسانه فلهذا قال : { وَكُنَّا فَاعِلِينَ }.
- وفي الحديث النبوي :
في صحيحِ البُخاري أنَّ امرأتين خرجتا ومع كلِّ واحدةٍ منهما صبيّ رضيع لها ، فجاءَ الذئبُ وأكلَ أحدهما ، فادَّعتْ كل واحدة منهما أنَّ الذئبَ إنما أكلَ ابن صاحبتها !
فتحاكمتا إلى داود عليه السلام ، وقصَّتا عليه القصة ، فحكمَ به للكُبرى .
ثم اختصمتا إلى سُليمان عليه السلام ، فقال : ائتوني بسكينٍ أشقُّ الغلامَ نصفين ، لكلٍّ منكما نصف !
فقالتْ الكُبرى : نعم .
وقالتْ الصُغرى : لا تفعل ، فنصيبي فيه لها !
فقالَ للصُغرى : خُذيه فهو ابنكِ !
ندعوكم لقراءة : الكريم والكليم
- متميز في القضاء :
كانَ سُليمانُ عليه السلام داهيةً في القضاء ، أعطاه اللهُ منه حظًا وافرًا .
فمن دهاء سليمان عليه السلام ، المعبر عن الفطنة والذكاء : أنَّ رجلًا جاءه وقال : يا نبي الله ، إن لي جيرانًا يسرقون إوزي !
فنادى عليه السَّلام : الصلاة جامعة !
ثم صعدَ المنبرَ وخطبَ في الناسِ وقال : ما بال أحدكم يسرقُ إوز جاره ثم يدخلُ المسجد والريش على رأسه ؟!
فمسحَ رجلٌ رأسَه !
فقالَ سُليمان عليه السلام : خُذوه فإنه صاحبكم !!
وحين أصابَ سُليمان الحُكْمَ في قصةِ الامرأتين ، ولم يُصِبْ في هذا داود عليه السلام ، فهذا لأنَّ الله تعالى فضَّل الأنبياء بعضهم على بعض ، وأعطى بعضهم ما لم يُعْطِ بعضًا ، فسُليمان عليه السلام في القضاءِ أبرع من داود عليه السلام ، وكلاهما بِنَصِّ القرآن أوتِيَ حُكمًا وعلمًا .
وداود عليه السلام يتميز في أمور أخرى كثيرة ، كما أسلفنا .
وقد كانَ هارونُ عليه السلام أفصحَ من مُوسى عليه السلام لسانًا ، ومُوسى بلا خِلافٍ أفضل من هارون بالمُجمل ؛ فهو من أولي العزم من الرسل .
إذا تفاوتَ الأنبياءُ عليهم السلام أجمعين بما أعطاهم ربهم ، فمن بابٍ أَوْلَى أن يتفاوتَ الناسُ كذلك !
وحين غابَ عن داود الحكم وأصابه سُليمان عليهما السلام ، فمن بابٍ أَوْلَى أن يختلفَ الفُقهاء ، ويُصيبُ أحدهم ويُخطئ آخر ، وكلهم مُجتهدٌ صاحبُ فضل ، قاصدٌ وجهَ الله ، ونفعَ الأمة ، فلا نتعصَّب للمذاهب ، ولا نهضم حقوق الآخرين ، نعترفُ للجميعِ بأفضالهم ، ونتقربُ إلى اللهِ تعالى بحبهم .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
” إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر “.
( متفق عليه ).
وهذا في العالم الذي يعرف الأحكام الشرعية .