من عبق التاريخ

حُكم قراقوش

– بهاء الدين الأسدي ، الملقب بـ قراقوش ؛ ومعناها باللغة التركية : النسر الأسود ، ظلمه كارهوه وألصقوا به التهم التي شوهت تاريخه ؛ ولكن الله جل في علاه يدافع عن الذين آمنوا ؛ هكذا وعد سبحانه في كتابه العزيز ، وهذا الرجل منهم ، نحسبه كذلك ، والله حسيبه .

– وهو المسكين الذي صار على ألسنة الناس في كل زمان وكل بلد المثل المضروب لكل حاكم فاسد الحكم ، فكلما أراد الناس أن يصفوا حُكمًا بالجور والفساد قالوا : هذا حُكم قراقوش .

وهم يحرِّفون اسمه فوق تحريف تاريخه .. فيقولون : قراقاش بدل قراقوش !

– إن قراقوش له صورتان : صورة تاريخيَّة صادقة، وصورة روائيَّة صوَّرها عدوٌّ له من منافسيه ؛ وهذا ديدن كل حقود حسود في كل زمان ومكان .
والعجيب أن الصورة التاريخية الحقيقية طُمست ونُسيت ، والصورة الخيالية بقيت وخُلِّدت ، فلا يُذكر قراقوش إلا ذَكَرَ الناس هذه الحكايات العجيبة ، وهذه الأحكام الغريبة التي نُسبت إليه ، وافتُريت عليه .

– وقراقوش يا سادة يا كرام هو أحد قواد البطل المسلم صلاح الدين الأيوبي ، وكان من أخلص أعوانه وأقربهم إليه ، وكان قائدًا مظفرًا ، وجنديًّا أمينًا ، وكان مهندسًا حربيًّا بارعًا .
وكان نموذجًا يُِحتذى به للرجل العسكري ، إذا تلقى أمرًا أطاع بلا معارضة ولا نظر ولا تأخير ، وإن أمر أمرًا لم يرضَ من جنوده بغير الطاعة الكاملة ، بلا اعتراض ولا نظر ولا تأخير .

– وكان أمينًا غاية الأمانة ؛ لما أحس الفاطميون بقرب زوال ملكهم شرعوا يعبثون بنفائس القصر ، ويحملون منها الغالي والنفيس ، وكان القصر مدينة صغيرة ، كدَّس فيها الخلفاء الفاطميون من التحف والكنوز والنفائس ما لا يحصيه العدُّ .

وَكَلَ صلاح الدين إلى قراقوش حفظ القصر ، فنظر فإذا أمامه من عقود الجواهر والحُلِي النادرة والكؤوس والثريات والبسط المنسوجة بخيوط الذهب ما لا مثيل له في الدنيا ، هذا فضلًا عن العرش الفاطمي الذي كان من أرطال الذهب ، ومن نوادر اليواقيت والجواهر ، ومن الصنعة العجيبة ما لا يقوّم بثمن .
وكان في القصر -فوق ذلك- من ألوان الجمال في المئات والمئات من الجواري المنحدرات من كل أمم الأرض ، ما يفتن العابد ، ولكن الرجل الذي اؤتمن على كل ذلك ، لم يفعل إلا مايُرضي ربه ومولاه ؛ هكذا كانت أخلاق هذا الفارس النبيل ؛ فله منا الشكر الجزيل ، والله حسبه ونعم الوكيل .

– هو الذي أقام أعظم المنشآت الحربية التي تمت في عهد صلاح الدين ، وإذا ذهبتم إلى مصر وزرتم القلعة المتربعة على المقطم المطلة على المدينة ، فاعلموا أن هذه القلعة ، بل هذه المدينة العسكرية ، أثر من آثار قراقوش .

وإذا رأيتم سور القاهرة الذي بقي من آثاره إلى اليوم ما يدهش الناظر ، فاعلموا أن الذي بَنَى السور وأقام فيه الجامع وحفر البئر العجيبة في القلعة هو قراقوش .

ندعوكم لقراءة : بطل لم يُهزَم

– ولما وقع الخلاف بين ورثة صلاح الدين وكادت تقع بينهم الحرب ، ما كفَّهم ولا أصلح بينهم إلا قراقوش .

– ولما مات العزيز الأيوبي وأوصى بالملك لابنه المنصور وكان صبيًّا في التاسعة ، جعل الوصي عليه والمدبر لأمره قراقوش ، فكان الحاكم العادل ، والأمير الحازم ، أصلح البلاد ، وأرضى العباد .

– هذا قراقوش ، فمن أين جاءت تلك الوصمة التي وُصم بها ؟! ومن الذي شوَّه هذه الصورة السويَّة ؟!
إنها جريمة الأدب يا سادة .

– لقد أساء ابن مماتي إلى قراقوش ؛ فألبسه وجهًا غير وجهه الحقيقي .

وابن مماتي -عليه من الله ما يستحق- ؛ كان كاتبًا بارعًا وأديبًا سليط اللسان ، كان موظفًا في ديوان صلاح الدين ، وكان الرؤساء يخشونه ، وكانوا يتملقونه بالود حينًا وبالعطاء أحيانًا ، ولكن قراقوش وهو الرجل العسكري الذي لا يعرف الملق ولا المداراة لم يعبأ به ، ولم يخش شره ؛ وإثر ذلك ألَّف هذا الشرير ابن مماتي رسالة صغيرة سمَّاها : { الفافوش في أحكام قراقوش } ، ووضع هذه الحكايات ونَسَبَها إليه ، وصدَّقها الناس ، ونسوا التاريخ .

– ومات قراقوش الحقيقي وبقي قراقوش الفافوش ، كما مات كافور التاريخ ، وبقي كافور المتنبي ، وكما نُسي عنترة الواقع وبقي عنترة القصة .

هذا يا سادة سلطان الأدب ، فيا أيها الأدباء اتقوا الله في هذا السلطان ، ويا أيها الناس لا تنخدعوا بتزييف الأدباء .

– والشرفاء من أمثال الشيخ علي الطنطاوي -رحمه الله- ينصفون المظلومين بكتابة التاريخ الحقيقي لهم ؛ فقد كتب كتابه { رجال من التاريخ } ؛ للدفاع عن الشرفاء ، وقد أخذنا منه ما يخدم هذه القضية ؛ فالله يدافع عن الذين آمنوا .
وعند الله تجتمع الخصوم .

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى