النية في الإسلام

النية عليها مدار العمل ، ولا يتقبل الله من الإنسان أي عمل دون نية ؛ لذلك كانت النية في الإسلام شرطًا لا يقبل الله العمل إلا بها .

قال الملك جل في عليائه عن النية :
” قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ “. (الأنعام : 162-163)

وقال عز من قائل :
” فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلَا للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ “. (الزمر : 2-3)

وقال عز وجل :
” وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ “. (البينة : 5)

وقال جل جلاله :
” هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ۙ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ “. (يونس : 22)

وقال سبحانه :
” قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ “. (البقرة : 139)

وقال عز وجل :
“وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا “. (الإنسان : 8-12)

وقال المعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم :
” إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى “. (متفق عليه)

صدق نبي الإسلام المعلم صلى الله عليه وسلم ، الذي لا ينطق عن الهوى .

على نيتك تُثاب يا مؤمن ، وعليها تُعاقَب ، وبها يقبل الله عز وجل الأعمال ، وبها تُرد أيضًا .

قال المعلم صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته عند الإمامين البخاري ومسلم -رحمهما الله تعالى- : ” إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه “.

قال النووى -رحمه الله- : { أجمع المسلمون على عظم موقع هذا الحديث ، وكثرة فوائده وصحته }.

وقال الشافعى -رحمه الله- : { هو ثلث الإسلام ، ويدخل في سبعين بابًا من أبواب الفقه }.

والمعروف أن رجلًا من قريش هاجر إلى المدينة مع المسلمين من أجل امرأة يُقال لها : { أم قيس } ؛ فَعَرَّض به النبي صلى الله عليه وسلم تنفيرًا عن مثل قصده .

ومن أروع ما نظم أبو الحسن طاهر بن مفوز قوله :

عمدة الدين عندنا كلمات … أربع من كلام خير البرية

اتق الشبهات وازهد ودع ما … ليس يعنيك واعملن بنية

وقال ابن حجر العسقلاني -رحمه الله تعالى- في شرح هذا الحديث المهم جدًّا في حياة المسلم : { وَصَّاهُمْ بِالْإِخْلَاصِ فِي عِبَادَته . وَعَنْ أَبِي عَبْد الْمَلِك الْبَوْنِيّ قَالَ : مُنَاسَبَة الْحَدِيث لِلتَّرْجَمَةِ أَنَّ بَدْء الْوَحْي كَانَ بِالنِّيَّةِ ؛ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى فَطَرَ مُحَمَّدًا عَلَى التَّوْحِيد وَبَغَّضَ إِلَيْهِ الْأَوْثَان ، وَوَهَبَ لَهُ أَوَّل أَسْبَاب النُّبُوَّة وَهِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَة ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَخْلَصَ إِلَى اللَّه فِي ذَلِكَ فَكَانَ يَتَعَبَّد بِغَارِ حِرَاء فَقَبِلَ اللَّه عَمَله وَأَتَمَّ لَهُ النِّعْمَة .. وَقَالَ الْمُهَلَّب مَا مُحَصَّله : قَصَدَ الْبُخَارِيّ الْإِخْبَار عَنْ حَال النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَال مَنْشَئِهِ وَأَنَّ اللَّه بَغَّضَ إِلَيْهِ الْأَوْثَان وَحَبَّبَ إِلَيْهِ خِلَال الْخَيْر وَلُزُوم الْوَحْدَة فِرَارًا مِنْ قُرَنَاء السُّوء ، فَلَمَّا لَزِمَ ذَلِكَ أَعْطَاهُ اللَّه عَلَى قَدْر نِيَّته وَوَهَبَ لَهُ النُّبُوَّة كَمَا يُقَال الْفَوَاتِح عُنْوَان الْخَوَاتِم }. (ابن حجر : مقدمة فتح الباري 1/2)

فمن ذلك كله يتضح أهمية هذا الحديث ، وأهمية النية في التشريع الإسلامي كله في حياة المسلم كلها .

قال الجوهري في الصحاح : النية هي العزم .
وقال الخطابي : هي قصدك الشيء بقلبك ، وتحرى الطلب منك له .
وقال البيضاوي : هي انبعاث القلب نحو ما يراه موافقًا لغرض ، من جلب نفع ، أو دفع ضر ، حالًا أو مالًا .. والشرع خصها بالإرادة المتوجهة نحو الفعل ، ابتغاءً لوجه الله تعالى ، وامتثالًا لحكمه .
وقال العراقي في شرح التقريب : اختلف في حقيقة النية ، فقيل : هي الطلب ، وقيل : الجد في الطلب ، ومنه قول ابن مسعود : من ينوِ الدنيا تعجزه ، أي من يجدّ في طلبها .
وقال الزركشي في قواعده : حقيقة النية ربط القصد بمقصود معين ، والمشهور : أنها مطلق القصد إلى الفعل .
وقال الماوردي : النية قصد الشيء مقترنًا بفعله ، فإن قصده وتراخى عنه فهو عزم .
( راجع : عمر سليمان الأشقر : مقاصد المكلفين أو النيات في العبادات ص 20 وما بعدها )

أدعوكم لقراءة : أركان الإسلام

القرآن الكريم عَبَّر عن هذه النية المشروطة بعبارات مختلفة مثل : إرادة الآخرة ، أو إرادة وجه الله ، أو ابتغاء وجهه ، أو ابتغاء مرضاته .

والنية بالمفهوم الشرعي هي : إخلاص العمل لله تعالى وحده ، قال الله تعالى : ” وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ” .. والنية عند علماء الفقه هي : قصد الشئ مقترنًا بفعله ، وهي عبادة معنوية محلها القلب ، وتجب عند أول العبادة ، فعند الطهارة مثلًا في الوضوء عند غسل أول جزء من الوجه .

والمقصود من النية تمييز العبادة عن العادة .
فمن دخل المسجد مثلًا بقصد المكث فقط ، فالمكث عادة ، وإن نوى بمكثه الاعتكاف فهو عبادة ، يُثاب عليها بالنية ، بخلاف ما لو دخل المسجد للاستراحة .

تجب النية في أول العبادات التي تفتقر إلى نية ومنها :

في الطهارة ..
وفي الوضوء عند غسل أول جزء من الوجه ..
وفي التيمم عند مسح أول جزء من الوجه ..
وفي رفع الحدث الأكبر عند غسل أول جزء من البدن ..
وفي الصلاة عند تكبيرة الإحرام ..
وفي الزكاة ينوي المزكي أداء الزكاة المفروضة عليه ..
وفي الصيام الواجب من رمضان ، أو القضاء أو الكفارة يجب تبييت النية ليلًا ..
وفي صوم النفل يمتد وقت النية إلى ما قبل الزوال إذا لم يتعاط أي مفطر كما في فقه الشافعية ..
وفي الحج ينوي تمتعًا أو إفرادًا أو قرانًا ..
وفي عمل الخير : مثل بر الوالدين ، وصلة الرحم ، ونصر المظلوم ، وغيره .

فإن نويت الحقّ وأردته أعانك الله عليه ، وأتاح لك عُمّالاً ، وأتاك بهم من حيث لا تحتسب ، فإن عون الله على قدر النيّة ؛ فمَن تمت نيته في الخير ، تم عون الله له ، ومن قصرت نيته قصر من العون بقدر ما قصر منه .

المعاملات في علم الفقه مثل : البيع ، والإجارة ، وغيرها .. والنية من المنظور الفقهي لا تتعلق كثيرًا بأحكام المعاملات ، فعقد البيع والشراء -مثلًا- لا يحتاج إلى نية .

وهناك بعض الأمور تحتاج إلى نية ، بمعنى : ( نية إجراء الأمر ) مثل : ألفاظ الكنايات ، في : الطلاق ، والظهار ، والأَيمان والنذور وغيرها .

والأعمال إنما تتفاضل ويعظم ثوابها بحسب ما يقوم بقلب العبد من الإيمان والإخلاص ، حتى إن صاحب النية الصادقة يكون له أجر العامل نفسه ولو لم يعمل ، ولهذا لما تخلّف نفرٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن غزوة تبوك ؛ بسبب بعض الأعذار الشرعية التي أعاقتهم عن الخروج قال الرسول صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح : ” إن بالمدينة أقوامًا ما سِرْتُم مسيرًا ، ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم حبسهم العذر “. ( ياله من نبي ، بالمؤمنين رءوف رحيم )

وكما تجري النية في العبادات ، فكذلك تجري في المباحات ، فإن قصد العبد بكسبه وأعماله المباحة ، الاستعانة بذلك على القيام بحق الله والواجبات الشرعية ، واستصحب هذه النية الصالحة في أكله وشربه ، ونومه وراحته ، ومكسبه ومعاشة ، أُجر على تلك النية ، ومن فاته ذلك فقد فاته خير كثير .. يقول معاذ رضي الله عنه { إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي } ، وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ” إنك لن تعمل عملًا تبتغي به وجه الله إلا أُجرت عليه ، حتى ما تجعله في فيِّ امرأتِك ” ، وأما الحرام فلا يكون قربة بحال من الأحوال حتى لو ادعى الإنسان فيه حسن النية .

وبذلك يكون هذا الحديث جامعًا لأمور الخير كلها ، فحريٌّ بالمؤمن أن يفهم معناه ، وأن يعمل بمقتضاه في جميع أحواله وأوقاته .

تعدد النيات والمقاصد في العمل الواحد جائزة ؛ كما أفتى بذلك العلماء ، بل ويؤجر على نياته ، إن كانت لوجه الله فقط .

أما إن كان يُقصد بالعمل وجه الله وثناء الناس ، أو غير ذلك ، فهذا محبطٌ للعمل .

وأما إن كان المقصود بتعدد النيات أن يقوم بعمل وينوي به تحصيل أكثر من أجر بهذا العمل ؛ كمن يتصدق وينوي أن يكون بالصدقة في ظل عرش الرحمن ، وأن يصل بها رحمه ، وأن يكسو بها مسلمًا أو يطعم بها جائعًا، وأن يُتَدَاوَى بها ، وأن يفرج بها عن مكروب حتى يفرج الله عنه كربات الدنيا والآخرة .. إلى آخر هذه النيات الحسنة ، فهذه النيات مما يُثاب عليها المسلم ، ويجوز تعددها في العمل الواحد ، وليس لها عدد محدود ما دامت في حدود المشروع من النيات .

بل إن النية الحسنة تجعل العمل المباح قربة يؤجر عليها المسلم ، ففي قصة تحاور أبي موسى الأشعري ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما في كيفية قراءتهما للقرآن ، قال معاذ : { أَمَّا أَنَا فَأَنَامُ وَأَقُومُ وَأَرْجُو فِي نَوْمَتِي مَا أَرْجُو فِي قَوْمَتِي }. (رواه البخاري ومسلم)

قال النووي في شرح صحيح مسلم: مَعْنَاهُ : أَنِّي أَنَام بِنِيَّةِ الْقُوَّة وَإِجْمَاع النَّفْس لِلْعِبَادَةِ وَتَنْشِيطهَا لِلطَّاعَةِ, فَأَرْجُو فِي ذَلِكَ الْأَجْر كَمَا أَرْجُو فِي قَوْمَتِي ، أَيْ : صَلَوَاتِي .

وقال ابن حجر في فتح الباري : وَمَعْنَاهُ : أَنَّهُ يَطْلُب الثَّوَاب فِي الرَّاحَة كَمَا يَطْلُبهُ فِي التَّعَب ، لِأَنَّ الرَّاحَة إِذَا قُصِدَ بِهَا الْإِعَانَة عَلَى الْعِبَادَة حَصَّلَتْ الثَّوَاب .

وقال ابن قدامة في مختصر منهاج القاصدين : قال بعض السلف : إني لأستحب أن يكون لي في كل شيء نية ، وحتى في أكلي وشربي ونومي ودخولي الخلاء ، وكل ذلك مما يمكن أن يقصد به التقرب إلى الله تعالى ، لأن كل ما هو سبب لبقاء البدن وفراغ القلب من مهمات الدين ، فمن قصد من الأكل التقّوى على العبادة ، ومن النكاح تحصين دينه ، وتطييب قلب أهله ، والتوصل إلى ولد يعبد الله بعده ، أثيب على ذلك كله .

مَرِّن نفسك على استحضار النية وتعددها ، فو الله إن كل واحد منا بحاجة إلى حسنات يثقل بها ميزانه ، ويكفر بها عن سيئاته ، وتكون أنيسه في قبره ، وشفيعًا له يوم العرض الأكبر على الرب جل جلاله ، ” فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ “. (الزلزلة : 7)

قال الله الملك الحق : ” إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ ” (فاطر : 28) ؛ فهم أكثر الناس فهمًا لأمور دينهم ؛ ومن وراء ذلك فهم يعددون نياتهم في العبادات ، ويدعوننا إلى ذلك .

فتعدد النيات في العبادة هي تجارة العلماء التي يستكثر بها أصحابها من الأجر والثواب بالعمل الواحد ، فيقوم المسلم على سبيل المثال بصلاة ركعتين نافلة وينوي بهما أن تكون تحية المسجد وراتبة الفجر مثلًا ، كما يمكن أن ينوي بهما سنة الوضوء وغيرها من النيات .

والله من وراء القصد ، وهو يهدي السبيل .

Exit mobile version