
الأخلاق في القرآن :
إن المتأمل في القرآن الكريم ، المتدبر لآياته الكريمة ، لتستوقفه تلكم التوجيهات السامية ، والوصايا الراقية ، التي تخاطب النفس ، وتحثها على التحلي بالأخلاق الفاضلة العالية ، لكي ترفع من قدرها ، حتى تطهر وتزكو ، كيف لا ؟ وأصل الرسالة يوجزها رسولنا الكريم ﷺ بقوله : ” إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق “.
ويقول الرب العلي ﷻ عن حضرة النبي ﷺ :
« كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ ». (البقرة : 151)
- ويزكيكم :
يقول الإمام السعدي رحمه الله في معنى ( ويزكيكم ) :
{ أي يطهر أخلاقكم ونفوسكم بتربيتها على الأخلاق الجميلة ، وتنزيهها عن الأخلاق الرذيلة }.
ولذا جاء القرآن بالحث على اكتساب ما يزين النفس من الأخلاق ، معبرًا عن ذلك بأساليب شتى ، وبمواضع عديدة ، لكي تشرئب النفوس ، وتسعى لتحصيلها .
- الأخلاق :
الأخلاق : جمع خلق ، وهو هيئة للنفس راسخة ، تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية ، فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة عقلًا وشرعًا بسهولة سميت الهيئة خلقًا حسنًا ، وإن كان الصادر منها الأفعال القبيحة سميت الهيئة التي هي المصدر خلقًا سيئًا .
وقد يُطلَق الخلق ويُراد به الدين ، قال الماوردي -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى : « وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ». (القلم : 4)
فيه ثلاثة أوجه : أحدها أدب القرآن ، قاله عطية .
الثاني : دين الإسلام قاله ابن عباس .
الثالث : طبع كريم وهو الظاهر .
- العبادات والأخلاق :
هل تعلم – يارعاك الله – أن عدد آيات ( العبادات ) التي وردت في القرآن الكريم هي ( 130 ) آية فقط ، وأن عدد آيات ( الأخلاق ) هي ( 1504 ) آيات ؟!
فآيات الأخلاق في القرآن الكريم تعدت الألف وخمسمائة آية ؛ منها قوله تعالى : « وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ». (الإسراء : 34)
وقوله عز من قائل : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ». (المائدة : 1)
وقوله جل شأنه : « وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ». (المعارج : 32)
وأيضًا قوله في النهي عن القول بغير علمٍ : « وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ». (الإسراء : 36)
وقوله في الأمر بالعدل في جميع الأحوال : « وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ». (الأنعام : 152)
وقوله سبحانه : « وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ». (المائدة : 8)
فعدد آيات الأخلاق كبير جدًّا بالقياس إلى آيات الأحكام ، حيث بلغ عددها أربعًا وخمسمائة وألف آية ، موزعة في مختلف سور القرآن الكريم مكية ومدنية ، طويلة وقصيرة ، مما يبين أهمية الأخلاق في المنظومة الإسلامية ، ومن ثم يمكننا فهم الحصر الوارد في الحديث النبوي الشريف : ” إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق “.
فالأسبقية للتربية على العلم ، فلا علم بدون أخلاق ، بل قد يكون العلم وبالًا على صاحبه والناس أجمعين ، ولذلك تمت الإشادة الربانية بخلق الرسول الكريم محمد بن عبدالله ﷺ ، حتى يكون قدوة في ذلك ، يقول الله تبارك وتعالى لرسوله وحبيبه محمد ﷺ : « وإنك لعلى خلق عظيم ». (القلم : 4)
ندعوكم لقراءة : العلم والأخلاق
- يقول العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في ذلك :
« وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ».
{ حاصل خُلُقه العظيم ، ما فسرته به أم المؤمنين ، عائشة رضي الله عنها ، لمن سألها عنه ، فقالت : ” كان خلقه القرآن ” ، وذلك نحو قوله تعالى له : « خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ » ، « فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ » [الآية] ، « لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيُصُ عَلَيْكُم بِالمْؤُمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ » وما أشبه ذلك من الآيات الدالات على اتصافه صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق ، ( والآيات ) الحاثات على الخلق العظيم فكان له منها أكملها وأجلها ، وهو في كل خصلة منها ، في الذروة العليا ، فكان صلى الله عليه وسلم سهلًا ليِّنًا ، قريبًا من الناس ، مجيبًا لدعوة من دعاه ، قاضيًا لحاجة من استقضاه ، جابرًا لقلب من سأله ، لا يحرمه ، ولا يرده خائبًا ، وإذا أراد أصحابه منه أمرًا وافقهم عليه ، وتابعهم فيه إذا لم يكن فيه محذور ، وإن عزم على أمر لم يستبد به دونهم ، بل يشاورهم ويؤامرهم ، وكان يقبل من محسنهم ، ويعفو عن مسيئهم ، ولم يكن يعاشر جليسًا له إلا أتم عشرة وأحسنها ، فكان لا يعبس في وجهه ، ولا يغلظ عليه في مقاله ، ولا يطوي عنه بشره ، ولا يمسك عليه فلتات لسانه ، ولا يؤاخذه بما يصدر منه من جفوة ، بل يحسن إلي عشيره غاية الإحسان ، ويحتمله غاية الاحتمال صلى الله عليه وسلم }.
- وتعالوا معي لنستمتع معًا بشعر ذلكم الشاعر المصري العملاق حافظ إبراهيم وهو يقول :
إني لتطربني الخلال كريمةً … طرب الغريب بأوبة وتلاقي
وتهزني ذكرى المروءة والندى … بين الشمائل هزة المشتاقِ
فإذا رُزقت خليقة محمودة … فقد اصطفاك مقسم الأرزاقِ
فالناس هذا حظه مال وذا … علم وذاك مكارم الأخلاقِ
والمال إن لم تدخره محصنًا … بالعلم كان نهاية الإملاقِ
والعلم إن لم تكتنفه شمائلٌ … تعليه كان مطية الإخفاقِ
لاتحسبن العلم ينفع وحده … مالم يتوج ربه بخلاقِ
- من أخلاقبات الإسلام :
تهدف شريعتنا الغراء إلى الرقي بالمجتمع المسلم إلى معالي الأمور وسمو الأخلاق ، وتنأى بأفراده عن كل خُلُقٍ ذميم .
فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال :
” إياكم والجلوس بالطرقات ” ، فقالوا : يا رسول الله ، ما لنا من مجالسنا بدٌّ نتحدث فيها ، فقال : ” إذ أبيتم إلا المجلس ، فأعطوا الطريق حقه ” ، قالوا : وما حق الطريق يا رسول الله ؟
قال : ” غض البصر ، وكف الأذى ، ورد السلام ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر “.
( متفق عليه ).