البر في رمضان :
البرّ كلمة جامعةٌ لكلِّ صفات الخير .
ورمضان شهر استثنائي ، صامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام ، وقاموا به حق قيامه ، وأكثروا فيه من أعمال البر ؛ فقد كان نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم فيه أجود بالخير من الريح المرسلة .
وكان عليه الصلاة وأزكى السلام ” إذا دخل العشر أحيا الليل ، وأيقظ أهله ، وشد المئزر ” ؛ كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه في الحديث المتفق على صحته للإمامين البخاري ومسلم .
وكان يقيم الليل ، بل دعانا إلى قيام الليل ، وحببنا فيه ، وبَيَّن لنا الأجر والثواب ؛ فقال صلوات ربي وسلامه عليه : ” من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه “. (متفق عليه)
وكان يكثر من قراءة القرآن الكريم في هذا الشهر الفضيل .
ويجب علينا أن نحذو حذو حبيبنا ، ونسير على نهجه ، فالأعمال الصالحة في رمضان كثيرة ومتنوعة ؛ فليسعَ كلٌّ منا أن يجعل شهر رمضان مختلفًا عن غيره من الشهور ، وذلك بالمحافظة على كل الصلوات في المسجد ، وقيام الليل ، وكثرة الصدقات ، وغير ذلك من الأعمال الصالحة ؛ حتى نفوز بالجنة .
ومن هذه الأعمال :
– قيام الليل :
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” مَن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه “. (رواه البخاري : 37 ، ومسلم : 759)
وكانت امرأة حبيب أبي محمد تقول له بالليل : ” قد ذهب الليل وبين أيدينا طريق بعيد ، وزادنا قليل ، وقوافل الصالحين قد سارت قدَّامنا ، ونحن قد بقينا “.
وقالت أمنا عائشة رضي الله عنه : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه !!
وسألته : لِمَ تصنع هذا يارسول الله وقد غُفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟
قال : ” أفلا أكون عبدًا شكورًا ؟ “. (متفق عليه)
هذا قول رسولنا الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فماذا نقول نحن ، وتقصيرنا واضحٌ وضوح الشمس رأد الضحى ؟!
نقول كما كانت تقول أمي -رحمها الله- : عملنا ضعيف ، وهو اللطيف .
– الدعاء :
قال الله تعالى : ” وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ “. (البقرة : 186)
وقد جاءت هذه الآية الكريمة بين آيات الصيام لتكون دليلًا على أهمية هذه العبادة في هذا الشهر .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” الدعاء هو العبادة “. (رواه أبو داود والترمذي وأحمد)
و( الدعاء هو العبادة ) ؛ أي أن العبادة الحقيقية لا تقوم إلا بالدعاء ، كما يقول العلماء .
وهو يدل على افتقار العبد إلى ربه وحاجته إليه في كل حال ، وقد سمَّاه الله تعالى عبادة في قوله عز وجل : ” وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدْعُونِيۤ أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ “. (غافر : 60)
ويقول أنس -خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم- : كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” اللهم آتنا في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة ، وقنا عذاب النار “. (متفق عليه)
وكان المعلم صلى الله عليه وسلم يستحب الجوامع من الدعاء ، ويدع ما سوى ذلك ؛ كما قالت أمنا عائشة رضي الله عنها .
– الاعتكاف :
عن ابن عمر رضي الله عنهما : ” أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الأواخر من رمضان “. (رواه البخاري : 1921 ، ومسلم : 1171)
- الحِكَم من الاعتكاف :
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله : ” لما كان صلاح القلب واستقامته على طريق سيره إلى الله تعالى متوقفًا على جمعيته على الله ، ولمِّ شعثه بإقباله بالكلية على الله تعالى ؛ فإن شعث القلب لا يلمه إلا الإقبال على الله تعالى ، وكان فضول الطعام والشراب ، وفضول مخالطة الأنام ، وفضول الكلام ، وفضول المنام ؛ مما يزيده شعثًا ويشتته في كل واد ، ويقطعه عن سيره إلى الله تعالى أو يضعفه ، اقتضت رحمة العزيز الرحيم بعباده أن شرع لهم من الصوم ما يذهب فضول الطعام والشراب ويستفرغ من القلب أخلاط الشهوات المعوقة عن سيره إلى الله ، وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه عكوف القلب على الله تعالى ، والخلوة به ، والانقطاع الذي مقصوده وروحه عكوف القلب على الله تعالى ، والخلوة به ، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق ، والاشتغال به وحده ، بحيث يصير ذكره وحبه والإقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته فيستولي عليه بدلها “. (عن كتاب : زاد المعاد لابن القيم)
– عُمرة رمضان :
” عمرة في رمضان تعدل حجة ” ؛ هكذا روى ابن عباس عن سيد الناس محمد صلى الله عليه وسلم .
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأة من الأنصار : ” ما منعك أن تحجي معنا ؟ ” ، قالت : كان لنا ناضح فركبه أبو فلان وابنه -لزوجها وابنها- وترك ناضحًا ننضح عليه ، قال : ” فإذا كان رمضان اعتمري فيه ؛ فإن عمرة في رمضان حجةً “. (رواه البخاري : 1690 ، ومسلم : 1256)
والناضح : بعير يسقون عليه .
– ترك الغيبة والنميمة والمعاصي :
قال الله تعالى : ” وَإِذَا سَمِعُواْ ٱللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ “. (القصص : 55)
فمن سمع غيبة محرمة ؛ فالواجب عليه ردها والإنكار على قائلها ، وإلا فارق ذلك المجلس إن أمكنه ذلك .
فعل ذلك معاذ بن جبل ، حين رد عن أخيه كعب بن مالك ، وقال لمن اغتابه : بئس ما قلت ، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرًا. (متفق عليه)
وأما النميمة فقد شدَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم النكير على النمام ؛ فقال : ” لا يدخل الجنة نَمَّام “. (متفق عليه)
والنميمة : هي نقل الكلام بين الناس على جهة الإفساد .
عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” ألا أنبئكم ما العَضْهُ ؟ هي النميمة ، القتلة بين الناس “. (رواه مسلم)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” مَن لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه “. (رواه البخاري : 1804)
والصيام فرصة لترك التدخين ، والصحبة الفاسدة ، والسهر على المعصية ، وذلك حين يمتنع عن الطعام والشراب ويسهر في بيوت الله تعالى في صلاة وعبادة .
– إطعام الطعام :
قال الله تعالى : ” وَيُطْعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ٱللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَـٰهُمُ ٱللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ ٱلْيَومِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيرًا “. (الإنسان : 8-12)
عن زيد بن خالد الجهني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” مَن فطَّر صائمًا كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء “. (رواه الترمذي وابن ماجه ، وصححه الألباني)
قال بعض السلف : لأن أدعو عشرة من أصحابي فأطعمهم طعامًا يشتهونه أحب إلي من أن أعتق عشرة من ولد إسماعيل .
وقال عكرمة -صاحب ابن عباس- يقول : ” إن إبراهيم عليه السلام يُدعَى أبا الضيفان ؛ فقد كان لبيته أربعة أبواب ؛ لكيلا يفوته أحد “. (عن : البداية والنهاية لابن كثير)
وكان رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة ، وخصوصًا في رمضان .
– قراءة القرآن :
رمضان هو شهر القرآن ؛ فينبغي أن نكثر فيه من قراءته ، وتدبر آياته .
ولقد كان حال السلف العناية بكتاب الله ، فكان جبريل يدارس النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في رمضان ، وكان بعض السلف يختم في قيام رمضان كل ثلاث ليال ، وبعضهم كل سبع ، وبعضهم في كل عشر ، فكانوا يقرءون القرآن في الصلاة وفي غيرها ، فكان للشافعي في رمضان ختمات كثيرة ، يقرؤها في غير الصلاة .
وقال ابن عبد الحكم : ” كان مالك -إمام دار الهجرة- إذا دخل رمضان ترك قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم ، وأقبل على تلاوة القرآن من المصحف “.
وقال عبد الرزاق : ” كان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على تلاوة القرآن ” .. وكان الزهري إذا دخل رمضان يفر من الحديث ومجالسة أهل العلم ويقبل على تلاوة القرآن من المصحف.
قال ابن رجب : ” إنما ورد النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث على المداومة على ذلك ، فأما في الأوقات المفضلة كشهر رمضان خصوصًا الليالي التي يطلب فيها ليلة القدر ، أو في الأماكن المفضلة كمكة لمن دخلها من غير أهلها فيستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن اغتنامًا لفضيلة الزمان والمكان “.
وهذا غَيْضٌ من فَيْض .
– قيام ليلة القدر :
قال الله تعالى : ” إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ ” (القدر : 1) إلى آخر السورة .
وقال عز من قائل : ” إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ … “. الآيات (الدخان : 3)
وقال صلى الله عليه وسلم : ” من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا ؛ غُفر له ما تقدم من ذنبه “. (رواه البخاري ومسلم)
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى ليلة القدر ويأمر أصحابه بتحريها ؛ فقد ورد عنه قوله : ” تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان “. (متفق عليه)
وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان “. (أخرجه البخاري في الصوم : 2017)
وكان يوقظ أهله في ليالي العشر ؛ رجاء أن يدركوا ليلة القدر .
وورد عن بعض السلف من الصحابة والتابعين الاغتسال والتطيب في ليالي العشر ؛ تحريًا لليلة القدر التي شرفها الله ورفع قدرها ؛ فهي ليلة مباركة .
فيا من أضاع عمره في الهزل ، استدرك ما فاتك في ليلة القدر ، فإنها تُحسب من العمر ، والعمل فيها خير من العمل في ألف شهر سواها ، من حُرم خيرها فقد حُرم .
وهي في العشر الأواخر من رمضان ، وهي في الوتر من لياليه أحرى .
– ربنا يحب العفو :
وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت : يا رسول الله إن وافقت ليلة القدر ما أقول ؟ قال : ” قولي : اللهم إنك عفوٌ تحب العفوَ فاعفُ عني “. (رواه الترمذي وأحمد)
– الإكثار من الذكر والاستغفار :
يُستحب الذكر في كل الأوقات ، وفي رمضان من باب أولى ، فقد كان نبي الهُدى صلى الله عليه وسلم يذكر الله تعالى على كل أحيانه.
” وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ “. (الجمعة : 10)
- والاستغفار :
قال الله تعالى : ” وَٱسْتَغْفِرِ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا “. (النساء : 106)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” إنه ليُغَان على قلبي ، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة “. (رواه مسلم)
قوله ( ليغان على قلبي ) أي الفتور قليلًا عن الذكر الذي شأنه أن يداوم عليه ، فإذا فتر عنه لأمر ما ؛ عَدَّ ذلك ذنبًا فاستغفر فيه .
وقيل : هو السكينة التي تغشي عليه ، والاستغفار لاظهار العبودية لله والشكر لما أولاه .
وعن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول قبل موته : ” سبحان الله وبحمده ، أستغفر الله وأتوب إليه “. (متفق عليه)
– صلة الرحم :
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ” من أحب أن يُبسَط له في رزقه ، ويُنسأ له في أثره ؛ فَلْيصِلْ رحمه “. (متفق عليه)
ومعنى يُنسأ أي يؤخر .
إن صلة الرحم من محاسن الأخلاق التي حث عليها الإسلام ودعا إليها وحذر من قطيعتها .. فقد دعا الله عز وجل عباده بصلة أرحامهم في تسع عشرة آية من كتابه الكريم ، وأنذر من قطع رحمه باللعن والعذاب في ثلاث آيات .
ولهذا دأب الصالحون من سلف الأمة على صلة أرحامهم رغم صعوبة وسائل الاتصال في عصرهم .
وقد ورد عن نبي الصلة والرحمة قوله : ” الرحم معلقة بالعرش تقول : من وصلني وصله الله ، ومن قطع قطعه الله “. (متفق عليه)
فالله الله في أرحامكم ؛ يرحمكم الله .
– زكاة الفطر :
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : ” فرض رسولُ الله ﷺ زكاة الفطر ، صاعًا من تمر ، أو صاعًا من شعير ، على العبد والحُرّ ، والذكر والأنثى ، والصَّغير والكبير ، من المسلمين ، وأمر بها أن تُؤدَّى قبل خروج الناس إلى الصلاة “. (متَّفقٌ عليه)
– مهلًا شهر الصوم :
لله در الشاعر القائل :
مهلًا هلال الصوم سر متريثًا … حتـى أُذِيـبَ تراكــم الأوزارِ
إني لمرتقبٌ بكل تلهفٍ … لزيارةٍ من أكرم الزوارِ
ما أنت إلا مُرتقىً يسمو بنا … في جنة الواحات والأنهارِ
إن صمتُ محتسبًا كُفِيتُ خطيئتي … ومضيتُ في عفو مع الأبرارِ
ماكنتُ ياربي لوعدك منكرًا … أو مستحلًّا مهنةَ الأشرارِ
مادمتُ مفتونًا بنفسي والهوى … إبليس دومًا عاكفٌ بجواري
فلسوف تلقاني بها مترنحًا … في حضرة التحذير والإنذارِ
أشكو إلى مولاي ضعف عزيمتي … ما حجتي ويحي وما أعذاري ؟
لكنه أَمَلِـي بنـــيل كرامــةٍ … من غافر الآثـام والآثـارِ
أَمَلِي بنيل الفوز رغم إساءتي … وتجهمي بالذنب والإصرارِ
أظمأت روحي واكتفيت برشفة … من وحي ربي عالم الأسرارِ
وجفوت ما كان السبيل لزلتي … متلذذًا بنســائم الأســحارِ
أرجو بها عتقًا وسترًا غامرًا … كي لا أراني ثاويًا في النارِ