اعتزال المعصية ومكانها وأهلها من أنجع الوسائل التي تؤدي إلى النجاة ، وإلى رضا الله -جلّ في عُلاه- ؛ فيتعطف عليك بإحسانه ، ويمنحك عفوه وغفرانه ، ويسبغ عليك رضوانه ، ويبلغك جنانه .
سبحانه .. سبحانه .
قال الله تعالى في محكم التنزيل عن إبراهيم الخليل :
” فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۖ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا “. (مريم : 49)
كتب المفسرون عن هذه الآية الكريمة من سورة مريم عن قيمة اعتزال المعصية وأثر ذلك على الفرد وعلى المجتمع .
- وها هو الإمام الكبير الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى ، يقول في التفسير :
لما اعتزل الخليل أباه وقومه في الله ، أبدله الله من هو خيرٌ منهم ، ووهب له إسحاق ويعقوب ، يعني ابنه وابن إسحاق ، كما قال في الآية الأخرى : ” وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً ” (الأنبياء : 72) ، وقال : ” وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ” (هود : 71) .
ولا خلاف أن إسحاق والد يعقوب ، وهو نص القرآن في سورة البقرة : ” أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ ٱلْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـٰهَكَ وَإِلَـٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ “. (البقرة : 133)
ولهذا إنما ذكر هاهنا إسحاق ويعقوب ، أي : جعلنا له نسلًا وعقبًا أنبياء ، أقر الله بهم عينه في حياته ؛ ولهذا قال : ” وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا ” ، فلو لم يكن يعقوب قد نبئ في حياة إبراهيم ، لما اقتصر عليه ، ولذكر ولده يوسف ، فإنه نبي أيضًا .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته ، حين سُئل عن خير الناس ، فقال :
” يوسف نبي الله ، ابن يعقوب نبي الله ، ابن إسحاق نبي الله ، ابن إبراهيم خليل الله “.
وفي اللفظ الآخر : ” إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم : يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم “.
- وفي التفسير الميسر :
فلما فارقهم وآلهتهم التي يعبدونها من دون الله رزقناه من الولد : إسحاق ، ويعقوب بن إسحاق ، وجعلناهما نبيَّين .
- وقال العلامة عبد الرحمن السعدي رحمه الله في تفسيره :
” فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۖ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا “.
ولما كان مفارقة الإنسان لوطنه ومألفه وأهله وقومه ، من أشق شيء على النفس ، لأمور كثيرة معروفة ، ومنها انفراده عمن يتعزز بهم ويتكثر ، وكان من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه ، واعتزل إبراهيم قومه ، قال الله في حقه :
{ فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا ْ} من إسحاق ويعقوب { جَعَلْنَا نَبِيًّا ْ} فحصل له هبة هؤلاء الصالحين المرسلين إلى الناس ، الذين خصهم الله بوحيه ، واختارهم لرسالته ، واصطفاهم من العالمين .
- وفي الوسيط للدكتور محمد سيد طنطاوي رحمه الله :
” فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۖ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا “.
ثم بين -سبحانه- ما ترتب على اعتزال إبراهيم للشرك والمشركين فقال : ” فَلَمَّا اعتزلهم وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهْمْ مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا “.
أى : فحين اعتزل إبراهيم -عليه السلام- أباه وقومه وآلهتهم الباطلة ؛ لم نضيعه ، وإنما أكرمنا وتفضلنا عليه بأن وهبنا له إسحاق ويعقوب ليأنس بهما بعد أن فارق أباه وقومه من أجل إعلاء كلمتنا ، ( وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا ) أى : وكل واحد منهما جعلناه نبيًّا .
- وفي التفسير للإمام البغوى :
” فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۖ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا “.
{ فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله } فذهب مهاجرًا { وهبنا له } بعد الهجرة { إسحاق ويعقوب } آنسنا وحشته [ من فراقهم ] وأقررنا عينه ، بأولاد كرام على الله عز وجل { وكلًا جعلنا نبيًّا } يعني : إسحاق ويعقوب عليها السلام .
– ابتغاء مرضاته :
اعتزال المعصية ، ومكان المعصية ، وأهل المعصية ، وذلك ابتغاء مرضاة الله تعالى ؛ فيفتح الملك سبحانه أبوابًا من الهبات والعطايا التي تسعد وتفرح القلب والروح .
ندعوكم لقراءة : من ثمار الاستغفار
– قاتل المائة :
عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدْرِي -رضي الله عنه- أنَّ نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم قال :
” كان فيمن كان قبلكم رجل قَتَلَ تِسْعةً وتِسْعين نفسًا ، فسأَل عن أَعلمِ أهلِ الأرضِ فدُلَّ على راهِبٍ ، فأتاه ، فقال : إنه قَتَل تِسعةً وتسعِينَ نَفْسًا ، فَهلْ له مِنْ توْبَةٍ ؟
فقال : لا ، فقتلَهُ فكمَّلَ بِهِ مائةً ، ثمَّ سأل عن أعلم أهلِ الأرضِ ، فدُلَّ على رجلٍ عالمٍ ، فقال : إنه قتل مائةَ نفسٍ ، فهل له من تَوْبة ؟ فقالَ : نعم ، ومنْ يحُول بيْنه وبيْنَ التوْبة ؟
انْطَلِقْ إِلَى أرض كذا وكذا ؛ فإن بها أُناسًا يعْبدون الله تعالى فاعْبُدِ الله معهم ، ولا ترجعْ إِلى أَرْضِكَ ؛ فإِنها أرضُ سُوءٍ ، فانطَلَق حتَّى إِذا نَصَف الطَّريقُ ، أَتَاهُ الموتُ فاختَصمتْ فيه مَلائكة الرَّحْمة وملائكةُ العَذابِ ، فقالتْ ملائكةُ الرَّحْمة : جاء تائِبًا مُقْبلًا بِقلبه إلى اللَّه تعالى ، وقالَتْ ملائكة العذاب : إنه لمْ يَعْمل خيرًا قطُّ ، فأَتَاهُمْ مَلكٌ في صورة آدمي ، فجعلوه بينهم ؛ أَي : حَكمًا ، فقال : قيسوا ما بينَ الأَرْضَينِ ، فإِلَى أَيَّتِهما كَان أَدْنى فهْو لَهُ ، فقاسُوا فوَجَدُوه أَدْنى إِلَى الأرض التي أَرَادَ فَقبَضَتْهُ مَلائكَةُ الرحمة “. (متفقٌ عليه)
وفي روايةٍ في الصحيح :
” فكان إلى القرية الصَّالحَةِ أقربَ بِشِبْرٍ ، فجُعِل مِنْ أَهْلِها “.
وفي رِواية في الصحيح :
” فأَوْحَى اللَّهُ تعالَى إلى هذه أن تباعَدِي ، وإلى هذه أَن تَقرَّبِي ، وقَال : قِيسُوا مَا بيْنهمَا ، فَوَجدُوه إِلَى هَذِهِ أقربَ بِشِبْرٍ فَغُفِرَ له “.
وفي روايةٍ :
” فنأَى بِصَدْرِهِ نحوها “.
– وقفة متأنية :
ينبغي أن يكون العالِم أو الداعية في كل زمان ومكان بصيرًا بالواقع ، كما كان العالِمُ في قصة القاتل التائب بصيرًا بواقعه ، عالِمًا بحال أهل هذه القرية .
وأصحاب الذنوب ، عليهم ألا يَيْأسوا من رحمة الله تبارك وتعالى التي وسعت كل شيء ، وأن يبادروا بالتوبة ، ويسرعوا إلى ذلك قدْرَ وُسْعِهم وطاقتهم ؛ ” سارعوا ” .. ” سابقوا ” ، وعليهم أن يبتعدوا عن كل رذيلة ، فينأوا بأنفسهم عن الأفكار المُعْوَجَّة ، والشبهات المبثوثة ، والشهوات المحرمة .
قال الله تعالى :
” قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ “. (الزمر : 53)
• وعليهم ألا ينخدعوا في الناس ، وأن يستفرغوا وسعهم في التعلم من أهل العلم الْمُحَقِّقين .
• أن يُتْبِعَوا السيئة الحسنة تمحوها ؛ إن الحسنات يُذهِبْنَ السيئات .
• البعد عن أهل الضلال والزَّيغ والبدع والأهواء ، ومصاحَبة أهل العلم والفضل .
وحال المؤمن لا ينفكُّ أبدًا عن منزلة التوبة واعتزال المعصية ، فهي مصاحِبة له دائمًا ، ويطلبها في هفواته ، في تقصيره ، في غفلته ، حتى في طاعته .