حكايات عصرية

إنا كنا نستنسخ

إنا كنا نستنسخ :

كتب الأستاذ/ محمد صلاح عابدين :

عندما كنت أعيش في أمريكا ( نيويورك ) ، أتاني خطاب بالبريد ( بأني ارتكبت مخالفة مرور ، حيث قطعت الإشارة الحمراء بالشارع الفلاني ، في الساعة الفلانية ، في اليوم الفلاني ).

ويسألونك في الخطاب :
هل تقر بهذه المخالفة أم لا ..
وهل لديك أي اعتراض ؟

وكانت قيمة المخالفة حوالي 150 دولارًا .

ولأني لا أذكر إن كنت قد قطعت الإشارة أم لا ، ولا أعرف أسماء الشوارع بالضبط في الولاية .

رددت عليهم :
نعم عندي اعتراض ؛ فأنا غير متيقن أني سرت فى هذا الطريق ، ولا قطعت هذه الإشارة .

بعدها بأسبوع ، وصلني خطاب ، وبه ثلاث صور لسيارتي :
واحدة قبل قطع الإشارة ، وهي حمراء ، والثانية وأنا في منتصف الإشارة ، وهي حمراء ، والثالثة بعد ما تعديت الإشارة بمتر واحد ، وهي حمراء أيضًا !!

يعنى متلبس لا مفر ، والصور هي الدليل القاطع .

دفعت ال 150 دولارًا ، بعد إقراري بالمخالفة وسكت .

وفي يوم ما ، بعد هذه الحادثة ، وأنا أقرأ في ” سورة الجاثية ” ، تذكرت هذه الحادثة والمخالفة عندما وصلت إلى قول الله تعالى :

” هَٰذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ ۚ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ “. (الجاثية : 29)

أي أن الله سبحانه وتعالى لديه نسخ مما فعل البشر في الحياة الدنيا .

هذا المقطع من الآية : ” إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ” ؛ أصابني بالذهول والقشعريرة والخوف من الله .

يا إلهي ! هذه آلة تصوير من صنع البشر ، ولا تستطيع أن تهرب أو تفر منها !

فما بالك بتصوير وتسجيل واستنساخ لأعمالنا من رب الناس .

أين المفر ؟

هذا الاستنساخ لأعمالنا :
في كتاب لا يضل ولا ينسى ، ويُحفظ فى مكان مأمون ، لا يتلف بفعل عوامل المناخ ؛ من أعاصير أو رياح أو أمطار ، ولا يُسرق ولا يُقرصن .

يا إلهي !

كل المعاصي مستنسخة :
بتواريخها ، ووقائعها ، وأشخاصها ..
بمكانها ، وزمانها .. وألوانها ..
بأهدافها ، وملابساتها ..
بخلفياتها ، وبواعثها ..

كلها مسجلة ، بالصوت والصورة ، وبالنوايا ، كذلك .

فهو سبحانه وتعالى ، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور .

أي إنه يعلم ما لا تستطيع كاميرات البشر تسجيله !

كل هذا سيُعرض على الإنسان يوم القيامة .

يا للهول !

” وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا “. (الكهف : 49)

ندعوكم لقراءة : أمانة مسلمة

– التفسير الوسيط :

التفسير الوسيط للقرآن الكريم للطنطاوي / تأليف شيخ الأزهر د. محمد سيد طنطاوي ( المتوفى : 1431هـ ) : ويُعتبر هذا التفسير من التفاسير الحديثة والقيِّمة لطلاب العلم و الباحثين في تفسير القرآن العظيم بأسلوب منهجي سهل وعبارة مفهومة .

  • تفسير الآية 29 من سورة الجاثية :

” هَٰذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ ۚ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ “. (سورة الجاثية : 29)

يقول الدكتور محمد سيد طنطاوي في تفسير الآية التي بين أيدينا :

ويقال لهم : هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ .
أى : هذا كتابنا الذي سجلته عليكم الملائكة ، يشهد عليكم بالحق ؛ لأنه لا زيادة فيما كُتب عليكم ولا نقصان ، وإنما هي أعمالكم أحصيناها عليكم .

قال القرطبي : قوله -تعالى- : هذا كِتابُنا قيل من قول الله لهم .
وقيل من قول الملائكة .
يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ أى : يشهد .
وهو استعارة ، يقال : نطق الكتاب بكذا ، أى : بَيَّن .
وقيل : إنهم يقرءونه فيذكرهم الكتاب ما عملوا ، فكأنه ينطق عليهم .
دليله قوله تعالى : ” وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها ” ، وقوله سبحانه : ” وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ “.
وقوله : يَنْطِقُ في موضع الحال من الكتاب .
وقال الجمل في حاشيته : فإن قيل : كيف أضيف الكتاب إليهم في قوله : ” كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا “.
وأضيف هنا إلى الله -تعالى- فقال : هذا كِتابُنا ؟
فالجواب أنه لا منافاة بين الأمرين ، لأنه كتابهم بمعنى أنه مشتمل على أعمالهم ، وكتاب الله ، بمعنى أنه -سبحانه- هو الذي أمر الملائكة بكتابته .
وقوله سبحانه : ” إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ “.
تعليل للنطق بالحق ؛ أي : إنا كنا نأمر ملائكتنا بنسخ أعمالكم ؛ أي : بكتابتها وتثبيتها عليكم في الصحف ، حسنة كانت أو سيئة ، فالمراد بالنسخ هنا : الإثبات لا الإزالة .

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى