أهل البر والإحسان 1
أهل البر والإحسان كُثر ، نذكر حكايات عصرية لبعض منهم :
1- تجارة مع الملك :
بدأت قصة ” صلاح عطية ” في قرية فقيرة تُسمى ( تفهنا الأشراف ) كانت مصدرًا لعمال التراحيل في جميع القرى المجاورة ، اجتمع عدد من أبناء هذه القرية عام 1982م لوضع حد لعلاج مشكلة الفقر والبطالة ، فقاموا بحصر أصحاب الأملاك من الأغنياء ، وركزوا على أهمية جمع الزكاة كخطوة أولى لمعالجة الفقر .
وبحسب رواية حكاها ” عطية ” قائلًا : ” كانت بداية التحول بالقرية باتفاق تسعة من الشباب -كنت أحدهم- الذين تعارفوا خلال فترة التجنيد بالجيش ، على إنشاء مزرعة للدواجن بعد انتهاء فترة تجنيدهم تكلفت ألفي جنيه ، ونظرًا لتواضع أحوالهم المادية فقد باع بعضهم مصاغ زوجته ؛ ليستطيع الوفاء بنصيبه في الشركة ، وخلال كتابة عقد الشركة قرروا تخصيص نسبة 10% من الربح لإنفاقها في وجوه الخير وسموه { سهم الله الأعظم } ..
وأضاف وعندما وجدوا حصيلة الربح كبيرة جدًا وأكثر مما كنا نتوقع قررنا زيادة نسبة { سهم الله الأعظم } إلى 20% من الربح في الدورة التالية وتكرر النتاج الكبير في الدورات التالية فزادت نسبة السهم حتى أصبحت 100% في إجمالي عشر مزارع “.
بمرور الوقت زاد عدد المزارع وتم إنشاء مصنع للأعلاف وآخر للمركزات ومصنع لعلف الماشية مع الاتجار في الحاصلات الزراعية وتصدير الموالح والبطاطس والبصل لعدة بلدان خارج مصر ، وأصبح النشاط التجاري من الأنشطة الرئيسية بتفهنا الأشراف ، وأقام الشباب الـ9 ، مزارع أخرى في التل الكبير حتى أصبح حجم الاستثمارات بالملايين .
في 6 يناير 1984م اجتمع المهندسان صلاح عطية وصلاح خضر ، مع عمدة القرية ، واتفقوا على فكرة إنشاء مركز إسلامي متكامل بالبلدة ، ومع التوسعات التي شهدتها مشروعات القرية كان الريع المخصص للعمل الخيري قد اتجه لإقامة حضانة لتحفيظ الأطفال القرآن الكريم بالمجان ، مع نقلهم من القرى المجاورة والتكفل بزي الحضانة ، ثم بناء معاهد أزهرية بكافة المراحل التعليمية للبنين والبنات .
بدأ التفكير في إنشاء كلية جامعية للشريعة والقانون ، تلاها كلية للتجارة بنات ، ثم كلية لأصول الدين ، ثم كلية رابعة للتربية ، ثم مدينتين جامعيتين للطلاب والطالبات المغتربين والمغتربات ، وساهم أهالي القرية بالتبرع في إقامة تلك المنشآت حسب استطاعتهم ، بداية من المشاركة في أعمال البناء إلى التبرع بالمال حسب الاستطاعة .. ويعتبر المهندس صلاح عطية مؤسس جامعة الأزهر في قرية ( تفهنا الأشراف ) ، وهي أول حالة لوجود جامعة داخل قرية في جمهورية مصر العربية ، والقرية تابعة لمركز ميت غمر بمحافظة الدقهلية .
وتسبب وجود أربع كليات جامعية بالقرية في حدوث رواج تجاري ، وحركة نشيطة للنقل والمواصلات .. كما قامت غالبية البيوت ببناء حجرات إضافية لتأجيرها للطلاب .. والنتيجة أنه لم يعد بالقرية عاطل ولا فقير .
وساهمت ( لجنة المصالحات ) التابعة للمركز الإسلامي الذي يرأس إدارته المهندس صلاح عطية ، في حل الخلافات المتنوعة داخل القرية ، وكانت نتيجة ذلك أنه لم تصل مشكلة واحدة من القرية إلى مركز شرطة ميت غمر طوال الأعوام العشرين الماضية ، لدرجة أنه كان بالقرية قبل نجاح التجربة اثنان من المحامين فقام أحدهما بغلق مكتبه وقام الآخر بتحويل نشاطه إلى مأذون شرعي .
تُوفي رجل البر والتقوى في الحادي عشر من يناير عام 2016م ، وشهد جنازته مئات الألوف ؛ مما جعلها من أكبر الجنازات في مصر .
ولقد نعاه العديد من الشخصيات في مصر لما كان له من أعمال خيرية بالرغم من أنه كان بعيدًا كل البعد عن الإعلام ، ولم يعرف به كثيرٌ من الناس إلا بعد وفاته .. عليه سحائب الرحمات .
2- المال .. مال الله :
” ناصر الخرافي ” .. والمال : هو الملياردير الكويتي رئيس مجموعة الخرافي الاستثمارية العملاقة التي تمتد استثماراتها إلى نحو ثلاثين دولة في مختلف أنحاء العالم وتتركز أغلبها في مصر بحجم استثمارات يقدر بسبعة مليارات دولار .
وهذه هي فلسفته بالنسبة للمال يلخصها في لقاء مع أحد الصحفيين المصريين بقوله : ” إن النقود بالنسبة لي هي مجرد ورق مطبوع بالألوان لكنها طباعة جيدة لا أكثر ولا أقل ، أما قيمة المال الذي تتصارع عليه الدول والأفراد ، فإنني أشعر بهذه القيمة فقط عندما أرى أرضًا تخضر بعدما كانت صحراء صفراء أو عندما أزور مصنعًا وأتابع إنتاجًا جديدًا لجهاز سيسهم في تحقيق اكتفاء ما في دولة عربية تحتاجه لمشرعات تنموية ؛ فأنا أتمنى لو نجح العرب في إنتاج كل ما يأكلون ويشربون ويلبسون ، وكل ما يحتاجون إليه ؛ ووقتها سيكون رأس المال العربي قد حقق المراد منه ، وأصبحت له قيمة ..
وأضاف أنه يرى أن الإنسان الذي يمتلك المال لابد سيُسأل يوم الحساب عما فعله بماله وسيحاسبه الله حسابًا عسيرًا ما لم يكن قد فعل به ما يفيد بلده ومجتمعه وأبناء بلده ومجتمعه موضحًا أن الإنسان لا يملك معدتين حتى يأكل أو يشرب أكثر من طاقته ولا يمكنه أن يرتدي أكثر من رداء في نفس الوقت أو ينام على فراشين في ذات الوقت أو يركب أكثر من سيارة ليتنقل بها .. وقال : إن المال هو مال الله ، وهذه حقيقة مؤكدة لأن النقود والأحجار الكريمة والمعادن النفيسة ليست سوى مال غير مباشر لا قيمة لها ، إنما المال المباشر هو ما يحقق المنفعة الآنية بشكل مباشر ، فطن من الذهب أو حقيبة بها مليون جنيه من البنكنوت لا يساوي شيئًا لجائع ضل طريقه في الصحراء ، بل إنه يمكنه أن يوافق فورًا على استبداله برغيفين وقطعة من الجبن الأبيض أو صندوق تمر صغير أو حبتين من الفاكهة وكل مال مباشر هو ناتج من الأرض التي خلقها الله سبحانه كزرع أو نبات أو من حيوان تغذى على ما تنبته الأرض أو حيوان تغذى على أعشاب في بحر ، وعليه فالمال المباشر يملكه المولى سبحانه وتعالى ، أما أموال البشر فهي أموال غير مباشرة لتوفير المال المباشر “.
3- الراجحي الإنسان :
نتحدث اليوم عن رجل وموقف .. والرجولة مواقف .. نتحدث عن الإنسان .. نتحدث عن العنوان .. نتحدث عن المكان .. نتحدث عن الإحسان .. ” وهل جزاءُ الإحسانِ إلا الإحسان “.
وها هو الرجل :
إنه ” سليمان بن عبد العزيز الراجحي ” أحد أشهر رجال الأعمال في المملكة العربية السعودية .. نشأ فقيرًا ، وبدأ في تجميع ثروته من الصفر عبر أعمال مختلفة ابتداء من العمل كحمال ورمَّاد ، وطباخ ، وقهوجي ، وصبي صراف إلى إدارة أعمال الصرافة والتجارة في العقار على مستويات عالمية .
الشيخ سليمان الراجحي شريك مؤسس مصرف الراجحي ، أول بنك إسلامي في المملكة وأحد أكبر البنوك الإسلامية في العالم ، كما يملك العديد من الشركات المساهمة في التنمية الزراعية والغذائية والصناعية في المملكة وخارجها مثل الوطنية للصناعة ، الوطنية للنقل بالإضافة إلى دواجن الوطنية .. وقد أعلن في يوم 4 / 6 / 2014 في مؤتمر أقيم في مدينة الجوف أنها وقف لله تعالى ، وغيرها من المشاريع .
عُرف عن الشيخ سليمان ميله الدائم للعمل الخيري ، وتوج هذا العطاء بأن أوقف ثُلثي ثروته ، حال حياته ، في سبيل الله ووزع الثلث الباقي على أفراد عائلته .. وتم إنشاء شركة قابضة -شركة أوقاف سليمان الراجحي القابضة- لتكون الذراع الاستثماري لإدارة الوقف ، بينما تقوم مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية بإدارة القسم الخيري وتوزيع الريع القادم من القطاع الاستثماري في المشاريع الخيرية وأعمال الخير المتنوعة .
ندعوكم لقراءة : أهل البر والإحسان 2
4- رَدّ الجَمِيل :
قال الراجحي الكبير ( الجد ) في مذكراته : ” كنت فقيرًا لدرجة أنني عجزت عن الاشتراك في رحلة مدرسية ، وكانت قيمة المشاركة فيها ريالًا سعوديًا واحدًا .. وعلى الرغم من بُكائي الشديد لأسرتي ، لم تعطني الريال ؛ لأنها لا تملكه !!
وقبل يوم واحد من الرحلة أجبت إجابة صحيحة في الفصل ؛ فكافأني المعلم الفلسطيني بريال مع تصفيق الطلبة لي ؛ فذهبت مسرعًا واشتركت في الرحلة ، وتحول بكائي الشديد إلى سعادة غامرة استمرت عدة شهور .
ومرت الأيام والسنون ، وغادرت المدرسة إلى الحياة .. وبعد سنوات من العمل الجاد ؛ وفقني الله عز وجل ، وعرفت العمل الخيري ، وهنا بدأت أتذكر ذلكم المعلم الرائع الذي كافأني بالريال ؛ وعدت إلى المدرسة ، وإلى جهات التعليم بحثًا عن هذا المعلم ( صاحب الفضل ) حتى عرفت طريقه ، فخططت للقائه والتعرف على أحواله ، ثم التقيته ، فوجدته في حالة صعبة بلا عمل ويستعد للرحيل .. قلت له : يا أستاذي الفاضل ، لك في ذمتي دَيْنٌ كبير جدًا منذ سنوات ، قال وبشدة : ما لي ديون على أحد ؛ وهنا سألته : هل تذكر طالبًا أعطيته ريالًا مكافأة على إجابته ؟ تذكر المعلم بعد عناء ، وقال ضاحكًا : نعم .. نعم ، وهل تبحث عني لترد لي ريالًا ؟ قال الراجحي : نعم .. وبعد نقاش ، أركبته معي ، وذهبنا ، ثم وقفنا أمام فيلا جميلة ، ونزلنا ودخلنا سويًّا ، وقلت له :
{ أستاذي الفاضل ، هذا هو سداد ديني ، مع تلك السيارة ، وراتب تطلبه مدى الحياة ، وتوظيف ابنك في شركتنا } .. ذُهل المعلم وقال : هذا كثيرٌ جدًا .
رد الراجحي قائلًا : صَدِّقني إن فرحتي بريالك وقتها أكبر بكثير من حصولي الآن على عشر فيلات كهذه ، وما زلت لا أنسى تلك الفرحة “.
من يفعل الخير لا يُعدم جوازيه … لا يذهب العرف بين اللهِ والناسِ
5- سيد جلال الخَيّر :
كتب الراحل أحمد بهجت عن رجل الأعمال الخيري الكبير ” سيد جلال ” عدة مقالات في عموده المتميز ( صندوق الدنيا ) بجريدة الأهرام في سبتمبر 2009 ، نتخير منها :
لم يكن سيد جلال ثريًّا وجيهًا من أصحاب الملايين ؛ ذلك أن القيمة الأسمى والأعظم في حياته أنه كان إنسانًا نبيلًا من أصحاب الإرادة .
استقل بعمله الاقتصادي منذ سنة 1919م ، وأصبح بالكفاءة والجهد من أشهر المصدرين والمستوردين ، وتم اختياره خبيرًا في المحاكم المختلطة ، وانتخب عدة مرات في الغرفة التجارية ، وكان نائبًا برلمانيا عن دائرة باب الشعرية حيث تفانى في خدمة ناخبيه .
في مواقف الرجل عظات ودروس حافلة بالقيم والمبادئ الجديرة بالاحتذاء والتقدير .
التثقيف الذاتي هو الدرس الأول والأروع في حياة سيد جلال ، فالرجل ليس من حملة الشهادات الجامعية ، لكن الاستسلام لم يكن واردًا في قاموس حياته ولذلك نجح في أن يحصل من العلم بما يتفوق به كمًا وكيفًا على الكثيرين من المتعلمين .
الإعلاء من شأن الكرامة هو الدرس الثاني الذي يمكن استنباطه من حياة سيد جلال .. هل من تعارض بين الفقر والكرامة ؟ كان فقيرًا معتزًا بكرامته ، وكان متصالحًا مع نفسه لإيمانه العميق بأن العمل شرف لا يمكن أن يشين صاحبه ، وأن الوظائف المتواضعة محدودة الدخل لا علاقة لها بالنفوس الرفيعة .
الدرس الثالث .. التسامح بلا ضغائن .. لقد حورب الرجل في ثروته وتجارته ، وتعرض لمظالم لا مبرر لها أو منطق يحكمها ، لكنه ظل مؤمنًا بالتسامح دون حق أو ضغينة ، كما أنه لا يعرف الشماتة في هزائم نظام لا يتوافق معه ، فالهم الوطني العام هو ما يشغله .
بذل سيد جلال كل ما يستطيع من الجهد لتنمية المجتمع الذي يعيش فيه ، ولم تكن أعماله الخيرية التنموية نابعة من فراغ فهو يملك رؤية متكاملة ، ويعي جيدًا خطورة الدور الذي يقع على كاهل رجال الأعمال .
كيف تصبح مليونيرًا ؟! عنوان مقال نشره أحمد عبود باشا في مجلة ( الاثنين ) ..
وفي العدد نفسه نشر سيد جلال مقالًا مختلفًا ( كيف أنفق مليون جنيه ؟ ) ..
يفتتح سيد جلال مقاله القصير العميق بقوله : ” قبل كل شيء أحب أن أقول أني لست مليونيرًا ولا أتمنى أن أكون مليونيرًا ، لأن الغنى في رأيي هو الخلق الكريم وحب الناس ، أما الفلوس فهي الثراء ، فالرجل الكريم هو الغني ، والرجل الذي يملك مئات الألوف هو الثري “.
البرلماني :
عاش حياته البرلمانية جريئًا شجاعًا ينتزع الكلمة من المنصة بكل قوة ، ويغير ويعدل في كل التشريعات لتتواءم مع أماني وأحلام الطبقة العاملة ، كان له الفضل في إصدار الكثير من القوانين ، وهو صاحب قانون ( من أين لك هذا ) .. وإصدار تشريع بإلغاء البغاء في مصر .
كان سيد جلال حبيب الكل ، وكان زهرة يانعة في بستان الحياة النيابية في بداية كل دورة لا يترك مناقشة تمر ، سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو تعليمية أو صحية أو سكانية أو زراعية ، إلا وشارك فيها برأي له وجاهته .
كان مستشفى باب الشعرية إنجازًا مهمًا لسيد جلال ، وبالجهود الذاتية نجح الرجل في أن يقيم مؤسسة علاجية راقية تخدم أبناء الحي وتعفيهم من مشقة الانتقال إلى الأحياء البعيدة .
وفي عام 1947 اجتاح وباء الكوليرا مصر ، وسيطر الفزع والهلع ، وتطلع الجميع إلى المصل الواقي .. قام سيد جلال بدوره كاملًا وبذل جهدًا خارقًا حتى حصل على الكمية المطلوبة من الأمصال ، وأشرف بنفسه على عملية التطعيم حتى اطمأن إلى أن كل فرد من أبناء الحي الشعبي العريق قد أصبح آمنًا على نفسه وأسرته من الوباء الخطير .
وامتدت خدمات سيد جلال في باب الشعرية لتشمل تعمير المساجد الخربة ، فقد أنفق من ماله الكثير على إصلاحها ، وكان يجد سعادة غامرة كلما جدد مسجدًا تُفتح أبوابه من جديد لاستقبال أفواج المصلين .
أما الإنجاز الأشهر والأهم الذي اقترن باسم سيد جلال فهو حملته العنيفة ضد البغاء العلني ، لم يكن موقفه هذا تعبيرًا عن انتمائه إلى حي باب الشعرية حيث تقع منطقة البغاء الرسمي المصرح به .. لكنه كان مدفوعًا بمشاعر دينية وأخلاقية جياشة ترى في البغاء رذيلة ووصمة عار تسيء إلى عموم الوطن وليس إلى منطقة بعينها من مناطقه .
وقد صدر قرار الإلغاء سنة 1947م بعد صراع طويل .. فقد اشتعلت معركة عنفية بين المؤيدين والمعارضين ، ولم يكن المعارضون من مخاصمي القيم الدينية الأخلاقية ، بل كانوا ينظرون إلى ذلك النشاط من منظور اجتماعي واقعي ولا يكتمون تخوفهم مما يترتب عليه من آثار ونتائج .
كان سيد جلال أخلاقيًا مثاليًا ، يتحلى بشعور ديني عميق ، لكن موقفه من المرأة دفع بعض الصحف إلى اتهامه بأنه عدو المرأة .. هل كان سيد جلال عدوَ المرأة ؟ .. لم يكن عدوًا للمرأة على الإطلاق .