حكايات عصرية

نبش الأسرار

نبش الأسرار :

الله جلَّ في عُلاه يريد أن يتوب علينا توبة تلم شعثنا ، وتجمع متفرقنا ، وتقرب بعيدنا ؛ ومن ثَمَّ يتجاوز عن خطايانا ، ويغفر ذنوبنا ؛ فهو سبحانه وبحمده يحب ذلك .. وعلى الجانب الآخر يريد الذين ينقادون لشهواتهم وملذاتهم أن ننحرف -عياذًا بالله- عن الدين انحرافًا كبيرًا .
فاللهم تُبْ علينا ؛ لنتوب ، واغفر لنا الذنوب .

يقول الله التواب الرحيم في القرآن الكريم :
« وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا ». (النساء : 27)

  • وهذه مشاعل العيسى الكاتبة السعودية التي غيرت اتجاه فهمها مائة وثمانين درجة ، كتبت تقول :

{ اليوم أقلد قلمي شرف نبش أسرار الضياع .

لم تكن توبتي نتيجة ظروف قاسية أو محنة عارضة ، بل كنت أنعم بكل أشكال الترف والحرية في كل شيء ، وكنت أجسد العلمنة بمعناها الصحيح ، وكانت أفكارها نهجي ودستوري ، وكتبها مرصوصة في مكتبتي ، وقلمي تتلمذ على أشعار نزار قباني ، ورمي الحجاب حلم يداعب خيالي ، وقيادة السيارة قضيتي الأولى أنادي بها في كل مناسبة ، وأستغل ظروف من هم حولي لإقناعهم بضرورتها .

تمنيت أن أكون أول من يترجم فكرة القيادة إلى واقع ملموس ، ولطالما سهرتُ الليالي أخطط فيها لتحقيق الحلم .
أما تحرير المرأة السعودية من معتقدات وأفكار القرون البالية وتثقيفها وزرع مقاومة الرجل في ذاتها ، فلقد تشربتُها وتشربَتْها خلايا عقلي .
وسعيت لتسليط الضوء على جبروت الرجل السعودي وأنانيته .
وقدمت الرجل المتحرر على طبق من ذهب على أنه يفهم المرأة واستخراج كنوز أنوثتها وقدمها معه جنبًا إلى جنب .
وشوهت صورة الرجل المتدين على أنه اكتسب الخشونة والرعونة من الصحراء ، وتعامل مع الأنثى كما تعامل مع نوقه وهو يسوقها بين القفار .

كانت الموسيقى غذاء روحي ونديمي من الصباح إلى الفجر التالي ، أما الرقص بكل أنواعه فقد جعلته رياضة تعالج تخمة الهموم .

ونظريات فرويد كنت أدعمها في كل حين بأمثلة واقعية ، وأنسب المشاكل الزوجية إلى الكبت ، والعقد إلى آثار أساليب التربية القديمة التي استعملها أهلنا معنا .

وكانت أفكاري تجد بين المجتمع النسائي صيتًا عاليًا ومميزًا ، سرت عليها سنين عديدة .

وفي يوم من الأيام كنت جالسة في ساحة أحد الأسواق ، لفت نظري شاب متدين بهيئته التي تدل على ذلك ؛ ثوب قصير وسير هادئ وعيون مغضوضة ، أظنه في سن ما فوق العشرين ، أعجبني هدوؤه ، وطرأت عليّ بعدها أفكار غريبةٌ جدًّا .

علامات الرضا بادية على محياه ، خطواته ثابتة رغم أن قضيته في نظري خاسرة هو والقلة التي ينتمي إليها .. يتحدون ماردًا جبارًا اسمه التقدم ولا يزالون يناضلون !
سخرت بداخلي منه ومنهم ، لكنني لم أنكر إعجابي بثباته ، فقد كنت أحترم من يعتنق الفكرة ويثبت عليها .

حاولت أن أحلل الموضوع ، فقلت في نفسي :
( ربما هؤلاء الملتزمون تدينوا نتيجة الفشل ؛ فأخذوا الدين شعارات ليُشَار إليهم بالبنان ، لكن منهم العلماء والدكاترة وماض عريق ، قد ملكوا الدنيا حينًا من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب ).
أو ربما هو الترفع عن الرغبات !

وعند هذه النقطة بالذات اختلطت عليّ الأمور ..
الترفع عن الرغبات معناه الكبت ؛ والكبت لا ينتج حضارة !
حاولت أن أتناسى هذا الحوار مع نفسي لكن عقلي أبى عليّ ولم يصمت ، ومنذ ذلك الوقت وأنا في حيرة .

فقدت معها اللذة التي كنت أجدها بين كتبي ومع أنواع الموسيقى والرقص ومع الناس كافة .. علمت أني فقدت شيئًا ، لكن ما هو ؟
لست أدري !

اختليت بنفسي لأعرف ، طرقت أبواب الطب النفسي دون جدوى .
فقدت الإحساس السابق بل لم أعد أشعر بأي شيء !
كل شيء بلا طعم وبلا لون .
فعدت مرة أخرى لنقطة البداية عندما حصل التغيير بعد ذلك الحوار !
تساءلت كل ما أتمنى أستطيع أخذه ..
ما الذي يحدث لي إذًا ؟!
أين ضحكاتي المجلجلة ؟
وحواراتي التي ما خسرت فيها يوما ؟
جلسات الرقص والسمر ؟

وكلما حاولت أن أكتب أجدني أسير بقلمي بشكل عشوائي لأملأ الصفحة البيضاء بخطوط وأشكال لا معنى لها غير أن بداخلي إعصارًا من حيرة !

بدأت أتساءل !
لماذا لم أعد أشعر بروعة الموسيقى المنسابة إلى مسمعي ؟!
لو كانت غذاء الروح كما كنت أدّعي لكانت روحي الآن روضة خضراء .
وأين مني تلك الكتب التي احترمت كتّابها وصدقتهم ؟
لماذا تخذلني الآن كلماتهم ولا تشعل حماسي كما كانت ؟!

وهنا لاح سؤال صاعق : هل هؤلاء الغربيون فعلًا أفضل منا ؟ وبماذا هم أفضل ؟
تكنولوجيا ؟
وبماذا خدمت التكنولوجيا المرأة عندهم ؟
خدمت الرجل الغربي ، ولكن المرأة أين مكانها ؟
معه في العمل ؟
وأخرى في النوادي تتراقص على أنغام الآلات التي اخترعها الرجل !
وأخرى ساقية ونادلة له في الأماكن التي صنعها الرجل لتسليته !

اكتشفت حقيقة أمَـرّ من العلقم :
الرجل تقدم وضمن رفاهيته وتملص من الحقوق والواجبات ، وجعل المرأة صالة عرض لكل ما خطر على خياله ، واخترع لها أثوابًا بكل الأشكال .

اشتهاها راقصة ؛ فرقصت شرقي وغربي .. فالس وباليه .. كما اشتهاها العازف ..

اشتهاها ممثلة ، فمثلت كل الأدوار التي تحاكي رغباته من المحرمات والعلاقات والاعتداءات .. أي دور وكل دور !

اشتهاها على الشاطئ ؛ فأوجد لها ملابس البحر ، وأظهر منها ما أراد أن يرى على أنه موضة وحداثة !

اكتشفت الخديعة الكبرى في شعار حرية المرأة .
فإذا الرجل قد نادى بها ، وإذا بهدفه هو الوصول إلى المرأة !

ثم من ماذا يريدون بتحرير المرأة ، من الحجاب ؟
إنه عبادة كالصلاة والصوم .. وقد كنت سأحرم نفسي منه لولا أن تداركتني رحمة ربي !
يريدون أن يحرروني من طاعة الأب والزوج .. إنهم حُماتي بعد الله .

يريدون أن يحرروني من الكبت ، كيف سميتم العفة والطهارة كبتًا ؟ كيف ؟
ما الذي جنوه من الحرية ؟
غير الأمراض والضياع !

حرروا المرأة كما يزعمون !
أخرجوها من بيتها تكدح كالرجل ؛ فضاع الأطفال ، واليوم يدرسون ضياع الأطفال !

تبًّا لهم ، وتبًّا لعقلي الصغير ، كيف صدقتهم ؟
كيف لم أر تقدمنا والمرأة متمسكة بحجابها ؟

بعده عرفت علتي وعلة الشباب جميعًا .

أولًا : مشكلتنا الأساسية : أننا لا نعرف عن الإسلام إلا اسمه ، وعادات ورثناها عن أهلنا كأنه واقع فُرض علينا .

وثانيًا : لم ندرك طريقة الغزو الحقيقية .
خدرونا بالرغبات ، شغلونا عن القرآن وعلوم الدين ، فهي خطة محكمة ، تخدير ثم بتر ، ونحن لا نعلم .

اتجهت إلى الإسلام من أول نقطة ؛ من كتب التوحيد إلى الفقه ، ومع كلمات ابن القيم عدت إلى الله ، ومع إعجاز القرآن اللغوي والتصويري والعلمي والفلكي … و .. و .. و ..

ندمت على كل لحظة ضيعتها ؛ أقلب فيها ناظري في كتب كتبتها عقول مسخها الله وطمس بصيرتها .

كانت معجزة أمامي هو القرآن الكريم ، لم أحاول يومًا أن أفهم ما فيه أو أحاول تفسيره .

وبعدها أخرجت من منزلي ومن قلبي كل آلات الضياع والغفلة ، وعندما خرج حب اللحن من قلبي ، وجدت حلاوة الشهد تنبع من قراءة آيات القرآن ، وعرفت أعظم حب ؛ أحببت الله تعالى .

لبست الحجاب الإسلامي الصحيح بخشوع وطمأنينة واقتناع بعد تسليم أشعرني برضا الله عني ، ثم عرفت قول الله تعالى : ” مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ “. (الذاريات : 57)

أصبحت في سكناتي وحركاتي وطعامي وشرابي استشعر معناه العظيم .

أصبحت أنتظر الليل بشوق إلى مناجاة الحبيب ؛ أشكو إليه شدة شوقي إلى لقائه ، وإلى لقاء المصطفى محمد ﷺ ، وحنينًا إلى صحابته الكرام رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم ، ونسائه الطاهرات .

وأخيرًا …

كلمة إلى كل من سمع قصتي :
لا ترفضوا دينكم قبل أن تتعرفوا عليه جيدًا ؛ لأنكم إذا عرفتموه لن تتخلوا عنه ، فداه الأهل والمال والبنون والنفس }.

( انتهى ).

ندعوكم لقراءة : التقوى أصل السلامة

  • ومشاعل العيسى : انتشر اسمها عبر مواقع التواصل الاجتماعي في السنوات السابقة بعد أن أعلنت توبتها من أفكار ومعتقدات العلمانية ، وتعد مشاعل من أشهر الكتاب في المملكة العربية السعودية ، حيث تقوم بنشر العديد من المقالات التي تعبر فيها عن أفكارها في كافة المجالات .
شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى