مال قارون
مال قارون :
قارون وماله ومآله ؛ قصة من أعجب العَجَب ، والاتعاظ بها قد وَجَب .
ومالك الملك إذا وَهَب ، لا تسألن عن السبب .
أكرمه الله العاطي الوهَّاب ، وهيأ له الأسباب ، وفتح له الأبواب ، وأعطاه من كنوز الأموال ما فيه العجب العجاب ، وذكر قصته في الكتاب :
« إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ». (القصص : 76)
تخيل أن مفاتح خزائن مال قارون تثقل الجماعة القوية عن حملها !!
هذه المفاتيح ، فما ظنك بالخزائن ؟!
قال جرير عن منصور عن خيثمة ، قال :
{ وجدت في الإنجيل أن مفاتيح خزائن قارون وقر ستين بغلًا ما يزيد منها مفتاح على أصبع لكل مفتاح كنز }.
وقال الزمخشري صاحب الكَشَّاف :
{ وقد بولغ في ذكر ذلك -أي في كثرة مال قارون- بلفظ الكنوز ، والمفاتح ، والنوء ، والعصبة ، وأولى القوة }.
- ما معنى العصبة ؟
يجيب الدكتور محمد سيد طنطاوي رحمه الله في [ الوسيط ] بقوله :
{ العصبة : الجماعة من الناس من غير تعيين بعدد معين ، سموا بذلك لأنهم يتعصب بعضهم لبعض ، ومنهم من خصها في العرف ، بالعشرة إلى الأربعين }.
- ابن عم موسى عليه السلام :
قال ابن عباس رضي الله عنه : ( إن قارون كان من قوم موسى ) ، قال : كان ابن عمه .
وهكذا قال إبراهيم النخعي ، وعبدالله بن الحارث بن نوفل ، وسماك بن حرب ، وقتادة ، ومالك بن دينار ، وابن جريج ، وغيرهم : أنه كان ابن عم موسى ، عليه السلام .
وقال ابن جريج : { هو قارون بن يصهر بن قاهث ، وموسى بن عمران بن قاهث }.
- المُنَوَّر !!
قال قتادة بن دعامة :
{ كان يُسَمَّى المنور ؛ لحسن صوته بالتوراة ، ولكن عدو الله نافق كما نافق السامري ، فأهلكه البغي لكثرة ماله }.
وقال ابن إسحاق :
{ لم يكن في بني إسرائيل أقرأ للتوراة من قارون ، ولكنه نافق كما نافق السامري }.
ندعوكم لقراءة : قارون وفرعون وهامان
- نصيحة قومه له :
قال له قومه من بني إسرائيل : ( لا تفرح ) ؛ أي : لا تبطر ولا تأشر ولا تمرح ( إن الله لا يحب الفرحين ) الأشرين البطرين الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم .
قال الله الملك الحق :
« إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ». (القصص : 76)
وتابع قومه نصيحتهم له أن يستعمل ما وهبه الله عز وجل من هذا المال الجزيل والنعمة الطائلة ، في طاعة ربه والتقرب إليه بأنواع القربات ، التي يحصل له بها الثواب في الدار الآخرة ، ولا ينسى نصيبه من الدنيا ؛ من المباحات في المأكل والمشرب والملبس والمسكن ، وما إلى ذلك .
وطالبوه أن يحسن إلى خلق الله تعالى كما أحسن الله تعالى إليه ، وألا يفسد في الأرض ؛ لأن الله المالك الحقيقي للأرض وما عليها لا يحب المفسدين .
يقول الله ﷻ على لسان قومه :
« وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ». (القصص : 77)
- رده على قومه :
, قال المغرور : إنما أوتيته على علم عندي ؛ يعني : علم التوراة .
قال القرطبي :
{ وكان فيما رُوِي أنه كان من أقرأ الناس للتوراة ، ومن أعلمهم بها وكان أحد العلماء السبعين الذين اختارهم موسى للميقات .
وقال ابن زيد : أي إنما أوتيته لعلمه بفضلي ورضاه عني .
فقوله : عندي معناه إن عندي أن الله تعالى آتاني هذه الكنوز على علم منه باستحقاقي إياها لفضل فيَّ ، وقيل : أوتيته على علم من عندي بوجوه التجارة والمكاسب ؛ قاله علي بن عيسى .
ولم يعلم أن الله لو لم يسهل له اكتسابها لما اجتمعت عنده .. وقال ابن عباس : على علم عندي بصنعة الذهب وأشار إلى علم الكيمياء }.
قال الله جل في عليائه :
« قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ». (القصص : 78)
- النهاية الأليمة :
ها هي آيات سورة القصص في ختامها تبين الحال والمآل ؛ يقول ربنا الملك المتعال :
« فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ۖ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّـهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّـهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّـهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ ۖ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّـهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا ۖ وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ». (القصص : 79-82)
قال القرطبي :
{ قوله تبارك وتعالى : ” إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى ” ، لما قال تبارك وتعالى : ” وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها “.
بيّن أن قارون أوتيها واغتر بها .
ولم تعصمه من عذاب الله ، كما لم تعصم فرعون ولستم -أيها المشركون- بأكثر عددًا ومالًا من قارون وفرعون ، فلم ينفع فرعون جنوده وأمواله ، ولم ينفع قارون قرابته من موسى ولا كنوزه }.