كما يقول الكتاب

في رحاب آية

في رحاب آية :

الأمثال والعبر في القرآن الكريم جاءت في ألف آية .

وهذا المثل الذي ضربه الله سبحانه وتعالى في هذه الآية التي سنذكرها الآن : لمن عمل عملًا من صدقة أو معروف أو غير ذلك ، وبعد ذلك عمل أعمالًا تفسده ، فمثله كمثل صاحب هذا البستان الذي فيه من كل الثمرات ، وخص منها النخل والعنب لفضلهما وكثرة منافعهما ، لكونهما غذاءً وقوتًا وفاكهة وحلوى .

قال الله عز وجل في كتابه العزيز :
” أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ “. (البقرة : 266)

ولفاروق هذه الأمة حكاية ، مع هذه الآية ؛ كما ذكر الإمام البخاري في هذه الرواية :
قال البخاري عند تفسير هذه الآية : حدثنا إبراهيم بن موسى ، حدثنا هشام هو ابن يوسف عن ابن جريج : سمعت عبدالله بن أبي مليكة ، يحدث عن ابن عباس ، وسمعت أخاه أبا بكر بن أبي مليكة يحدث عن عبيد بن عمير قال : قال عمر بن الخطاب يومًا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : فيمن ترون هذه الآية نزلت : ( أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب ) ؟ قالوا : الله أعلم .. فغضب عمر فقال : قولوا : نعلم أو لا نعلم .. فقال ابن عباس : في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين .. فقال عمر : يا ابن أخي ، قل ولا تحقر نفسك .. فقال ابن عباس : ضُربت مثلًا لعمل .. قال عمر : أي عمل ؟ قال ابن عباس : لعمل .. قال عمر : لرجل غني يعمل بطاعة الله ، ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله .
ثم رواه البخاري ، عن الحسن بن محمد الزعفراني ، عن حجاج بن محمد الأعور ، عن ابن جريج ، فذكره .. وهو من أفراد البخاري ، رحمه الله .
وفي هذا الحديث كفاية في تفسير هذه الآية ، وتبيين ما فيها من المثل بعمل من أحسن العمل أولًا ثم بعد ذلك انعكس سيره ، فبدل الحسنات بالسيئات ، عياذًا بالله من ذلك ، فأبطل بعمله الثاني ما أسلفه فيما تقدم من الصالح واحتاج إلى شيء من الأول في أضيق الأحوال ، فلم يحصل له منه شيء ، وخانه أحوج ما كان إليه .

– إياكم والرياء :

إن الذي يرائي يخسر كل حاجاته ، ولا يقدر على شيء مما كسب .

ويقول الحق من بعد ذلك : ” يا أيها الذين آمنوا أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ… “.

– تفاسير يسيرة :

  • أولًا : تفسير الجلالين :

«أيَوَدُّ» أيحب «أحدكم أن تكون له جنة» بستان «من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها» ثمر «من كل الثمرات و» قد «أصابه الكبر» فضعف من الكبر عن الكسب «وله ذُرِّيةٌ ضعفاء» أولاد صغار لا يقدرون عليه «فأصابها إعصار» ريح شديدة «فيه نار فاحترقت» ففقدها أحوج ما كان إليها وبقي هو وأولاده عجزة متحيرين لا حيلة لهم وهذا تمثيل لنفقة المرائي والمانّ في ذهابها وعدم نفعها أحوج ما يكون إليها في الآخرة والاستفهام بمعنى النفي، وعن ابن عباس هو الرجل عمل بالطاعات ثم بعث له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أحرق أعماله «كذلك» كما بين ما ذكر «يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون» فتعتبرون .

ندعوكم لقراءة : الوصايا العشر

  • ثانيًا : التفسير الميسر :

أيرغب الواحد منكم أن يكون له بستان فيه النخيل والأعناب ، تجري من تحت أشجارِه المياه العذبة ، وله فيه من كل ألوان الثمرات ، وقد بلغ الكِبَر ، ولا يستطيع أن يغرس مثل هذا الغرس ، وله أولاد صغار في حاجة إلى هذا البستان وفي هذه الحالة هبَّت عليه ريح شديدة ، فيها نار محرقة فأحرقته ؛ وهكذا حال غير المخلصين في نفقاتهم ، يأتون يوم القيامة ولا حسنة لهم .
وبمثل هذا البيان يبيِّن الله لكم ما ينفعكم ؛ كي تتأملوا ، فتخلصوا نفقاتكم لله .

  • ويقول الإمام البغوي رحمه الله :

( أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار ) هذه الآية متصلة بقوله تعالى : ” يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى “.
قوله أيود يعني : أيحب أحدكم أن تكون له جنة ؛ أي بستان من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار .
( له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء ) ، أولاد صغار ضعاف عجزة ( فأصابها إعصار ) ، الريح العاصف التي ترتفع إلى السماء كأنها عمود وجمعه أعاصير ( فيه نار فاحترقت ) ، هذا مثل ضربه الله لعمل المنافق والمرائي ، يقول : عمله في حسنه كحسن الجنة ينتفع به كما ينتفع صاحب الجنة بالجنة ، فإذا كبر أو ضعف وصار له أولاد ضعاف وأصاب جنته إعصار فيه نار فاحترقت فصار أحوج ما يكون إليها ، وضعف عن إصلاحها ؛ لكبره وضعف أولاده عن إصلاحها لصغرهم ، ولم يجد هو ما يعود به على أولاده ولا أولاده ما يعودون به عليه فبقوا جميعًا متحيرين عجزة لا حيلة بأيديهم ، كذلك يبطل الله عمل هذا المنافق والمرائي حين لا مغيث لهما ولا توبة ولا إقالة .

ولهذا قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ) فأخبر أن الصدقة تبطل بما يتبعها من المن والأذى ، فما يفي ثواب الصدقة بخطيئة المن والأذى .
ثم قال تعالى : ( كالذي ينفق ماله رئاء الناس ) ؛ أي : لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ، كما تبطل صدقة من راءى بها الناس ، فأظهر لهم أنه يريد وجه الله وإنما قصده مدح الناس له أو شهرته بالصفات الجميلة ، ليشكر بين الناس ، أو يقال : إنه كريم ونحو ذلك من المقاصد الدنيوية ، مع قطع نظره عن معاملة الله تعالى وابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه ; ولهذا قال : ( ولا يؤمن بالله واليوم الآخر ).
ثم ضرب تعالى مثل ذلك المرائي بإنفاقه قال الضحاك : والذي يتبع نفقته منا أو أذى فقال : ( فمثله كمثل صفوان ) وهو جمع صفوانة ، ومنهم من يقول : الصفوان يستعمل مفردًا أيضًا ، وهو الصفا ، وهو الصخر الأملس ( عليه تراب فأصابه وابل ) وهو المطر الشديد ( فتركه صلدا ) أي : فترك الوابل ذلك الصفوان صلدًا ، أي : أملس يابسًا ، أي : لا شيء عليه من ذلك التراب ، بل قد ذهب كله ، أي : وكذلك أعمال المرائين تذهب وتضمحل عند الله وإن ظهر لهم أعمال فيما يرى الناس كالتراب ؛ ولهذا قال : ( لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين ).

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى