ليلة القدر ، هي في سماء المسلمين بدر ، وشمسٌ متى برزت من الخِدر ، وهي قلادة على الصدر ، فرصة لأهل الإيمان والصبر ، يجب استغلالها بلا هدر .
قال الله الملك الحق في سورة القدر : ” إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ * لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ ٱلْمَلَائِكَةُ وَٱلرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ ٱلْفَجْرِ “.
– يقول العلامة عبد الرحمن السعدي في تفسيره لسورة القدر :
” إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ “
إنا أنزلنا القرآن في ليلة الشرف والفضل ، وهي من شهر رمضان .
” وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ “
وما أدراك -يا محمد- ما ليلة القدر والشرف ؟
” لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ “
ليلة القدر ليلة مباركة ، فضلها خير من فضل ألف شهر ليس فيها ليلة قدر .
” تَنَزَّلُ ٱلْمَلَائِكَةُ وَٱلرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ “
يكثر نزول الملائكة وجبريل عليه السلام فيها ، بإذن ربهم من كل شهر قضاء في تلك السنة .
” سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ ٱلْفَجْرِ “
هي أمنٌ كلها ، لا شر فيها إلى مطلع الفجر .
– إحياء الليلة :
وفضلها عظيم لمن أحياها ، وهي ليلة عامة لجميع المسلمين ، وإحياؤها يكون بالصلاة ، والقرآن ، والذكر ، والاستغفار ، والدعاء من غروب الشمس إلى طلوع الفجر ، وصلاة التراويح في رمضان إحياء لها .
– آراء العلماء :
يقول فضيلة الشيخ السيد سابق رحمه الله : للعلماء آراء في تعيين هذه الليلة ؛ فمنهم من يرى أنها ليلة الحادي والعشرين ، ومنهم من يرى أنها ليلة الثالث والعشرين ، ومنهم من يرى أنها ليلة الخامس والعشرين ، ومنهم من ذهب إلى أنها ليلة التاسع والعشرين ، ومنهم من قال : إنها تنتقل في ليالي الوتر من العشرالأواخر ، وأكثرهم على أنها ليلة السابع والعشرين .
روى مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي -وصححه- عن أبيِّ بن كعب أنه قال : “ والله الذي لا إله إلا هو إنها لفي رمضان -يحلف ما يستثني- والله إني لأعلم أي ليلة هي ، هي الليلة التي أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقيامها ، هي ليلة سبع وعشرين ، وأمارتها أن تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها ”.
– فضل ليلة القدر :
عَظَّمَ القرآنُ شأنَ هذه الليلة ، فأضافها إلى ( القدر ) أي المقام والشرف ، وأي مقام وشرف أكثر من أن تكون خيرًا وأفضل من ألف شهر .
الطاعة والعبادة فيها خير من العبادة في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر .
وفي فضل ليلة القدر فإن ألف شهر تساوي ثلاثًا و ثمانين سنة وأربعة أشهر ، أي أن هذه الليلة الواحدة أفضل من عمر طويل يعيشه إنسان عمره ما يقارب مائة سنة ، إذا أضفنا إليه سنوات ما قبل البلوغ والتكليف .
وهي ليلة تتنزَّل فيها الملائكة برحمة الله وسلامه وبركاته ، ويرفرف فيها السلام حتى مطلع الفجر .
وفي السُّنَّة جاءت أحاديث جمة في فضل ليلة القدر ، والتماسها في العشر الأواخر ، ففي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة : “ من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه ”. (رواه البخاري في كتاب الصوم)
وبحكم فضل ليلة القدر ، يحذر النبي صلى الله عليه وسلم من الغفلة عن هذه الليلة وإهمال إحيائها ، فيحرم المسلم من خيرها وثوابها ، فيقول لأصحابه ، وقد أظلهم شهر رمضان : “ إن هذا الشهر قد حضركم ، وفيه ليلة خير من ألف شهر ، من حُرِمَها فقد حُرِم الخيرَ كله ، ولا يُحرم خيرها إلا محروم ”. (رواه ابن ماجه من حديث أنس ، وإسناده حسن كما في صحيح الجامع للألباني : 2247)
صح عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله يجاور في العشر الأواخر من رمضان ، ويقول : ” تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان “. (متفق عليه)
وعن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم ، خرج إليهم صبيحة عشرين فخطبهم ، وقال : “ إني أُريت ليلة القدر ثم أنسيتها -أو نسيتها- فالتمسوها في العشر الأواخر ، في الوتر ”. (متفق عليه)
ومعنى ( يجاور ) : أي يعتكف في المسجد ، والمراد بالوتر في الحديث : الليالي الوترية ، أي الفردية ، مثل ليالي : 21، 23، 25، 27، 29 .
– السبع الأواخر :
ويتأكد التماسها وطلبها في الليالي السبع الأخيرة من رمضان ، فعن ابن عمر : أن رجالًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أُروا ليلة القدر في المنام ، في السبع الأواخر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “ أرى رؤياكم قد تواطأت ( أي توافقت ) في السبع الأواخر ، فمن كان متحريها ، فليتحرها في السبع الأواخر ”. (متفق عليه)
والسبع الأواخر تبدأ من ليلة 23 إن كان الشهر 29 ومن ليلة 24 إن كان الشهر 30 يومًا .
ورأي أبي بن كعب وابن عباس من الصحابة رضي الله عنهم أنها ليلة السابع والعشرين من رمضان ، وكان أُبَىّ يحلف على ذلك لعلامات رآها ، واشتهر ذلك لدى جمهور المسلمين ، حتى غدا يُحتفل بهذه الليلة احتفالًا رسميًّا .
– 46 قولًا :
وقد تعددت الأقوال في تحديدها حتى بلغ بها الحافظ ابن حجر 46 قولًا .
وبعضها يمكن رَدُّه إلى بعض .
وأرجحها كلها : أنها في وتر من العشر الأخير ، وأنها تنتقل ، كما يُفهم من أحاديث هذا الباب ، وأرجاها أوتار العشر ، وأرجى أوتار العشر عند الشافعية ليلة إحدى وعشرين ، وعند الجمهور ليلة سبع وعشرين . (فتح الباري – 171/5 ط . الحلبي)
– عسى أن يكون خيرًا لنا :
روى البخاري عن عبادة بن الصامت قال : خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر ، فتلاحى رجلان من المسلمين ( أي تنازعا وتخاصما ) فقال : “ خرجت لأخبركم بليلة القدر ، فتلاحى فلان وفلان ، فرفعت ( أي من قلبي فنسيت تعيينها ) وعسى أن يكون خيرًا لكم ”.
– علامات ليلة القدر :
وقد ورد لليلة القدر علامات ، أكثرها لا يظهر إلا بعد أن تمضى ، مثل : أن تظهر الشمس صبيحتها لا شعاع لها ، أو حمراء ضعيفة …إلخ .
ومثل : أنها ليلة مطر وريح ، أو أنها ليلة طلقة بلجة ، لا حارة ولا باردة ، إلخ ما ذكره الحافظ في الفتح .
وكل هذه العلامات لا تعطي يقينًا بها ، ولا يمكن أن تَطَّرد ؛ لأن ليلة القدر في بلاد مختلفة في مناخها ، وفي فصول مختلفة أيضًا ، وقد يوجد في بلاد المسلمين بلد لا ينقطع عنه المطر ، وآخر يصلي أهله صلاة الاستسقاء مما يعاني من المَحْل ، وتختلف البلاد في الحرارة والبرودة ، وظهور الشمس وغيابها ، وقوة شعاعها ، وضعفه ، فهيهات أن تتفق العلامات في كل أقطار الدنيا .
ومما بحثه العلماء هنا : هل تعتبر ليلة القدر ليلة خاصة لبعض الناس ، تظهر له وحده بعلامة يراها ، أو رؤيا في منام ، أو كرامة خارقة للعادة ، تقع له دون غيره ؟ أم هي ليلة عامة لجميع المسلمين بحيث يحصل الثواب المرتب عليها لمن اتفق له أنه أقامها ، وإن لم يظهر له شيء ؟
لقد ذهب جمع من العلماء إلى الاعتبار الأول ، مستدلين بحديث أبي هريرة : “ من يقم ليلة القدر فيوافقها … ” (رواية لمسلم عن أبي هريرة) ، وبحديث عائشة : أرأيت يا رسول الله إن وافقت ليلة القدر ما أقول ؟ فقال : “ قولي : اللهم إنك عفوٌّ تحب العفو فاعفُ عني ”. (رواه ابن ماجه والترمذي عن عائشة)
وفسَّروا الموافقة بالعلم بها ، وأن هذا شرط في حصول الثواب المخصوص بها .
ورجح آخرون معنى يوافقها : أي في نفس الأمر ، إن لم يعلم هو ذلك ، لأنه لا يشترط لحصولها رؤية شيء ، ولا سماعه ، كما قال الإمام الطبري بحق .
– الله يحب العفو :
أيها الصائمون الموحدون ، أكثروا من قول : [ اللهُمّ إنڪَ عَفوٌ تُحِبُ آلعَفو فاعفُ عنا ].
لا تفتروا من التكرار ، بالليل ، وكذلك بالنهار .
فإذا عفا الله عنكم ؛ أفلحتم ، ونجوتم ، وسعدتم .
يقول إبن القيم رحمه الله : ” إذا كنت تدعُو وضاق عليك الوقت ، وتزاحمت في قلبك حوائجك ، فاجعل كل دُعائك أن يعفو الله عنك ، فإن عفا عنك أتتك حوائجك من دون مسألة “.
[ اللهُمّ إنڪَ عَفوٌ تُحِبُ آلعَفو فاعفُ عنا ].استشعر ما يتضمنه معناها حيث إن العفو هنا : عفوٌ في الأبدان ، وعفوٌ في الأديان ، وعفوٌ من الدَّيَّان .
- فعفو الأبدان : شفاؤك من كل داء .
- وعفو الأديان : توفيقك في الخير ، والعبادة ، والطاعات ، وكل أعمال الآخرة .
- وعفو الديان : الصفح والعفو والغفران من الله العفو الكريم المنان ؛ بمحو الذنب ، والتجاوز عنه ، وترك العقوبة عليه .
– من معاني العفو في اللغة :
الزيادة ، والكثرة ؛ فعفو المال زيادته : { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوَ } ؛ أي ما زاد عن النفقة الأصلية .
فعفوه بأن يعطيك ما تسأل ، وفوق ما تسأل .
فأكثروا من قولها ، فهى والله تغني عن كل دعاء .
– الفرق بين المغفرة والعفو :
- المغفرة : أن يسامحك الله على الذنب ولكنه سيبقى مُسَجَّلًا في صحيفتك .
- العفو : هو مسامحتك على الذنب مع محوه من الصحيفة وكأنه لم يكن .
ووصى به رسولنا صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في شهر رمضان ، وفى ليلة القدر .
– رمضان سيد الشهور :
رمضانَ سيدِ الشُّهور ، فالزموا فيه رباط الأجور ؛ فليس بينكم وبين الفلاح سوى العزيمة والصَّبر ، وخصوصًا ليلة القدر .
– كلام قَيِّم :
قال ابن القيم رحمه الله : ” بين العبد وبين السَّعادة والفلاح قوَّة عزيمةٍ ، وصبرُ ساعةٍ ، وشجاعةُ نفسٍ ، وثباتُ قلبٍ ، والفضلُ بيد اللّه يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم “.
اللهم إنك عفوٌّ تحب العفو فاعفُ عنا .