في صحبة الشافعي :
النوادر ومفردها نادر أو نادرة ؛ وهي الأشياء التي يقل وجودها أو حدوثها .
وشرفٌ كبيرٌ لنا أن نصحب هذا الإمام العلم الذكي الألمعي ، محمد بن إدريس الشافعي ؛ لنقف على بعض الجوانب المضيئة في حياته ، بما فيها من نوادر وأزاهير ؛ ومنها على سبيل المثال :
- نَسَبُهُ العالي :
ياله من شرف ، أن يلتقي نسبه مع نسب خير خلق الله ، محمد بن عبدالله ، صلى الله عليه وسلم ، في عبد مناف ؛ فهو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر ( وهو قريش ) بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان الشافعيّ المطَّلِبيّ القرشي .
يجتمع مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في عبد مناف بن قصي .
وقيل : هو ابن عم النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو ممن تحرم عليه الصدقةُ من ذوي القربى الذين لهم سهم مفروض في الخُمس ، وهم بنو هاشم وبنو المطلب .
- سنواته الأولى :
تميز الشافعي منذ نعومة أظفاره بالذكاء الحاد ، والعمل الجاد .
وُلد بغزة عام 150 هـ ، وانتقلت به أمُّه إلى مكة وعمره سنتان ، فحفظ القرآن الكريم وهو ابن سبع سنين ، وحفظ الموطأ للإمام مالك ، وهو ابن عشر سنين ، ثم أخذ يطلب العلم في مكة حتى أُذن له بالفتيا وهو فتًى دون العشرين .
واتفقت الروايات على أنه وُلِد سنة 150 هـ وهو العام الذي تُوفي فيه الإمام أبو حنيفة .
وقيل : وُلِد في اليوم الذي توفي فيه أبو حنيفة رحمه الله تعالى .
- من شعره وعلو سعره ، قال :
أُحِبُّ الصالِحينَ وَلَستُ مِنهُم … لَعَلّي أَن أَنالَ بِهِم شَفاعَة
وَأَكرَهُ مَن تِجارَتُهُ المَعاصي … وَلَو كُنّا سَواءً في البِضاعَة
- ياله من فتى !
كان الشافعي شغوفًا بالعلم ، ومجالس العلم منذ الصغر ؛ يستمع إلى المحدِّثين ، فيحفظ الحديث بالسمع ، ثم يكتبه على الخزف أو الجلود ، وكان يذهب إلى الديوان يستوعب الظهور ليكتب عليها ( والظهور هي الأوراق التي كُتب في باطنها وتُرك ظهرها أبيض ).
وقال في ذلك :
لم يكن لي مال ، فكنت أطلب العلم في الحداثة ، أذهب إلى الديوان أستوهب منهم الظهور وأكتب فيها .
وقال أيضًا :
طلبت هذا الأمر عن خفة ذات اليد ، كنت أجالس الناس وأتحفظ ، ثم اشتهيت أن أُدَوِّن ، وكان منزلنا بمكة بقرب شِعب الخَيْف ، فكنت آخذ العظام والأكتاف فأكتب فيها ، حتى امتلأ في دارنا من ذلك حبان .
- رحلته إلى البادية :
اتجه الشافعي إلى التفصُّح في اللغة العربية ، فخرج في سبيل هذا إلى البادية ، ولازم قبيلة هذيل ، قال الشافعي :
إني خرجت عن مكة ، فلازمت هذيلًا بالبادية ، أتعلم كلامها ، وآخذ طبعها ، وكانت أفصح العرب ، أرحل برحيلهم ، وأنزل بنزولهم ، فلما رجعت إلى مكة جعلت أنشد الأشعار ، وأذكر الآداب والأخبار. ولقد بلغ من حفظه لأشعار الهذليين وأخبارهم أن الأصمعي صاحب المكانة العالية في اللغة قال :
صححت أشعار هذيل على فتى من قريش يُقال له محمد بن إدريس !
وقال الدكتور عائض القرني في ذلك :
بدا إلى البادية ، فَهَذَّ شعر هُذَيْل ، فكان رأسًا وسواه ذَيْل .
وقال الشافعي في هذا الصدد :
ولولا الشعر بالعلماء يزري … لكنت اليوم أشعر من لبيد
وشهد له أمير الشعراء أحمد شوقي ، فقال :
تجري ألفاظه بالشعر ، وله مقاطيع مختارة ، وحكم في الناس سيارة .
- يوضح للعوام :
وحدث أبو نعيم الاسترابادي ، سمعت الربيع يقول : لو رأيت الشافعي وحسن بيانه وفصاحته ؛ لعجبت منه ، ولو أنه أَلَّفَ هذه الكتب على عربيته -التي كان يتكلم معنا في المناظرة- لم يقدر على قراءة كتبه ؛ لفصاحته وغرائب ألفاظه ، غير أنه كان في تأليفه يجتهد في أن يوضح للعوام .
- دُرًّا إلى دُرّ :
قال الجاحظ : نظرت في كتب هؤلاء النبغة الذين نبغوا في العلم ، فلم أر أحسن تأليفًا من المطلبي ( الشافعي ) ، كان كلامه دُرًّا إلى دُرّ!
- ست عشرة ختمة :
لما انتشر اسم إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله تعالى ، وكان يسير مسير الضوء في الآفاق ، وتناقلته الركبان ، وبلغ شأوًا عظيمًا في العلم والحديث ، سمت همة الشافعي إلى الهجرة إلى المدينة المنورة في طلب العلم .
ومما روي عنه في هذا المقام أنه قال :
فارقت مكة وأنا ابن أربع عشرة سنة ، لا نبات بعارضي من الأبطح إلى ذي طوى ، فرأيت ركبًا فحملني شيخ منهم إلى المدينة ، فختمت من مكة إلى المدينة ست عشرة ختمة ، ودخلت المدينة يوم الثامن بعد صلاة العصر ، فصليت العصر في مسجد رسول الله ﷺ ، ولُذت بقبره ، فرأيت مالك بن أنس رحمه الله متزرًا ببردة متشحًا بأخرى ، يقول : ” حدثني نافع عن ابن عمر عن صاحب هذا القبر “ ، يضرب بيده قبر رسول الله ﷺ ، فلما رأيت ذلك هبته الهيبة العظيمة .
ندعوكم لقراءة : مع الإمام الشافعي
- بينه وبين مالك :
ذهب الشافعي إلى الإمام مالك ، فلما رآه الإمامُ مالكٌ قال له :
يا محمد ، اتق الله ، واجتنب المعاصي ، فإنه سيكون لك شأن من الشأن ، إن الله قد ألقى على قلبك نورًا ، فلا تطفئه بالمعصية .
ثم قال له : إذا ما جاء الغد تجيء ويجيء ما يقرأ لك .
يقول الشافعي : فغدوت عليه وابتدأت أن أقرأ ظاهرًا ، والكتاب في يدي ، فكلما تهيبت مالكًا وأردت أن أقطع ، أعجبه حسن قراءتي وإعرابي ، فيقول : يا فتى زد ، حتى قرأته عليه في أيام يسيرة .
وقال الشافعي :
قدمت على مالك وقد حفظت الموطأ ، فقال لي : «أحضر من يقرأ لك» ، فقلت : «أنا قارئ» ، فقرأت الموطأ حفظًا ، فقال : «إن يك أحدٌ يفلح فهذا الغلام».
وبعد أن روى الشافعي عن الإمام مالك موطأه لزمه يتفقهُ عليه ، ويدارسُه المسائلَ التي يفتي فيها الإمام ، إلى أن مات الإمامُ سنة 179 هـ .
- ذكاء الإمام الشَّافعي :
قال حرملة بن يحيى : سُئل الشَّافعي عن رجلٍ في فمه تمرة ، فقال : إن أكلتُها ، فامرأتي طالقٌ ، وإن طرحتُها ، فامرأتي طالقٌ .
قال الشافعي : يأكل نصفًا ، ويطرح النصف .
( حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني جـ 9 صـ 143 ).
- قوة حفظه :
قال يونس بن عبد الأعلى : كان الشَّافعي يصنع كتابًا من غدوةٍ إلى الظهر من حفظه ، من غير أن يكون في يده أصل !
( حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني جـ 9 صـ 129 ).
- إلى أم الدنيا :
لم يَطِبْ للشافعي المقامُ ببغداد ، وكان لا بد من الرحيل منها ، ولم يجد مهاجَرًا ولا سَعةً إلا في مصر ، ذلك أن واليَها عباسيٌ هاشميٌ قرشيٌ ، قال ياقوت الحموي : ” وكان سبب قدومه إلى مصر أن العباس بن عبدالله بن العباس بن موسى بن عبدالله بن عباس دعاه ، وكان العباسُ هذا خليفةً لعبدالله المأمون على مصر “.
ولقد قال الشافعي عندما أراد السفر إلى مصر بحسب كتاب الشافعي للشيخ محمد أبو زهرة :
لقد أصبحتْ نفسي تتوق إلى مصر … ومن دونها قطعُ المهامةِ والقفرِ
فواللـه ما أدري ، الفوزُ والغنى … أُساق إليها أم أُساق إلى القبرِ
قدم الشافعي مصر سنة 199 هـ ، ومات فيها سنة 204 هـ ، وقد رُوي عن الربيع بن سليمان أنه قال : وقال لي يومًا ( يقصد الشافعي ) : كيف تركت أهل مصر ؟ فقلت : تركتهم على ضربين : فرقةٌ منهم قد مالت إلى قول مالك ، وأخذت به واعتمدت عليه وذبَّت عنه وناضلت عنه ، وفرقةٌ قد مالت إلى قول أبي حنيفة ، فأخذت به وناضلت عنه .
فقال : ” أرجو أن أقدم مصر إن شاء الله ، وآتيهم بشيء أشغلهم به عن القولين جميعًا “.
قال الربيع : ففعل ذلك والله حين دخل مصر .
( مناقب الشافعي ).
- حاله في آخر حياته :
روى الربيع بن سليمان حالَ الشافعي في آخر حياته فقال :
أقام الشافعي ها هنا ( أي في مصر ) أربع سنين ، فأملى ألفًا وخمسمئة ورقة ، وخرَّج كتاب الأم ألفي ورقة ، وكتاب السنن ، وأشياء كثيرة كلها في مدة أربع سنين ، وكان عليلًا شديد العلة ، وربما خرج الدم وهو راكب حتى تمتلئ سراويله وخفه ( يعني من البواسير ).
- وفاة الشَّافعي :
قال محمَّد بن يحيى المزني : دخلت على الشَّافعي في مرضه الذي مات فيه ، فقلت : يا أبا عبدالله ، كيف أصبحتَ ؟
فرفع رأسه ، وقال : أصبحت من الدنيا راحلًا ، ولإخواني مفارقًا ، ولسوء عملي ملاقيًا ، وعلى الله واردًا ، ما أدري روحي تصير إلى جنةٍ فأهنِّيها ، أو إلى نارٍ فأعزِّيها ، ثم بكى وأنشأ يقول :
ولَمَّا قسَا قلبي وضاقَتْ مذاهبي … جعلتُ رجائي دون عفوِك سُلَّمَا
تعاظَمَني ذنبي فلما قرنتُه … بعفوك ربي كان عفوُك أعظمَا
فما زلتَ ذا عفوٍ عن الذنبِ لم تزَلْ … تجود وتعفو مِنَّةً وتكرُّمَا
فإن تنتقِمْ مني فلستُ بآيسٍ … ولو دخَلَتْ نفسي بجُرمي جهنَّمَا
ولولاك لم يغوَ بإبليس عابدٌ … فكيف وقد أغوى صفيَّك آدمَا
وإني لآتي الذنبَ أعرِفُ قَدْرَهُ … وأعلم أن اللهَ يعفو ترحُّمَا
( سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 10 صـ 76 : 75 ).
تُوفي الإمام الشَّافعي ليلة الجمعة بعد العشاء ، آخر يوم من شهر رجب ، ودُفن يوم الجمعة ، سنة أربع ومائتين ، وعاش أربعًا وخمسين سنة .
( تاريخ بغداد للخطيب البغدادي جـ 2 صـ : 70 ) ، ( صفة الصفوة لابن الجوزي جـ 2 صـ 258 ).
رحم الله الإمام الشَّافعي ، وجمعنا معه في الفردوس الأعلى من الجنة مع النبيِّين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين ، وحسن أولئك رفيقًا .