كان صحابيًّا من الأخيار ؛ ولم لا وهو صاحب الدار ، الذي آوى النبي المختار ، الذي استخفى فيه وصحبه الأطهار ، لما خافوا على دينهم من المشركين الفجار .
خرجوا من الدار عندما أسلم عمر الجبار ، الذي أرعب الكفار .
خرجوا في صفين في وضح النهار .
كان -رضي الله عنه- من السابقين إلى الإسلام ، وكان من المهاجرين الأولين .
شهد بدرًا ، ونفله رسول الله صلى الله عليه وسلم منها سيفًا ، واستعمله على الصدقات .
أراد يومًا الصلاة في بيت المقدس ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ” صلاة في مسجدي هذا خيرٌ من ألف صلاة فيما سواها من المساجد إلا المسجد الحرام ” ؛ فجلس ( رضي الله عنه ) ، ولم يذهب طاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
** توجد عشرات الدور لتحفيظ القرآن الكريم تحمل اسم هذا الصحابي الهمام ؛ وخصوصًا في محافظتي القاهرة والجيزة .
– تفاصيل عن سيرته :
كان -رضي الله عنه- محمود السيرة ؛ لما قدمه في سبيل الدعوة الإسلامية من البداية حتى النهاية ؛ أي ثبات على الحق حتى الممات.
هو من هو ؛ هو صاحب ” دار الإسلام ” ، هو فتى مكة الذهبي ، هو من انطلقت من بيته دعوة الإسلام إلى العالم ، وفي فناء بيته ، وبين جدرانه ، أُعلنت شهادة : ” لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ” لأول مرة على ظهر الأرض ، وكانت أول صلاة جماعة للمسلمين عنده .
هو أول كاتبٍ للنبي صلى الله عليه وسلم ، وأول كاتبٍ للوحي ، كما أجمع المؤرخون .
– إسلامه :
لم يكن فتى قريش قد تجاوز السادسة عشرة من عمره ، حين أعلن إسلامه على يد الصدّيق أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه ، ليكون عاشر الذين أسلموا ، كان ذكيًّا حكيمًا ، استطاع أن يخدع قريش طويلًا ، فلم يخطر ببال أحدٍ أن دار الفتى المخزومي ، هي ملتقى محمدٍ صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وأن الفتى الوسيم القسيم أصبح مسلمًا ، يكفرُ بآلهتهم وما يعبدون ، حتى أسلم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وأصبح الفاروق عمر هو الرقم الصعب في حياة الدعوة الإسلامية ( رقم أربعين ) ، فانطلقوا من الدار إلى أرض الله الواسعة .
روى الطبري عن عبد الله بن عبيدة قال : ” مازال النبيّ مستخفيًا حتى نزلت ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) فخرج هو وأصحابه “. ويُقال إنها نزلت يوم إسلام الفاروق عمر .
انتظم المسلمون في صفين وساروا بثقةٍ وثباتٍ ، فكان على رأس الصف الأول البطل القوي أسد الله ورسوله حمزة بن عبد المطلب ( عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ) ، وعلى رأس الصف الآخر ، فاروق الأمة عمر بن الخطاب -الذي لم يكن قد مرَّ على إسلامه إلا نصف يوم- رضي الله عن الصحابة أجمعين .
فلما رأت قريش هذا المشهد الكبير الذي يتقدمه هذان البطلان ، وبينهما الرسول صلى الله عليه وسلم ، أصاب أهل مكة الفزع ، ومزّقهم الحزن والخوف من هذا المشهد ، وتخبّطوا تخبُّطًا شديدًا ، فالمسلمون يخرجون لأول مرةٍ دون وجلٍ أو خوف ، وهم يزأرون جميعًا : ” الله أكبر ولله الحمد “.
ثم يطوفون بالبيت علانيةً ، فتهتز جغرافيا مكة ، وتتزلزل قلوب أفئدة المشركين .
ومن هنا بدأ نشر الإسلام علنًا ، جهارًا نهارًا .
ولله الحمد والمنة .
– اسمه في معاجم اللغة :
وحش ضاري ( أسد ) كان موجودًا في شبه الجزيرة العربية وانقرض في وقت الجاهلية ، وكان من يصطاده يعتبر من الأقوياء ؛ لأنه أسد وكان ضاريًا فتّاكًا .
وكنيته : أبو عبد الله ، … بن أبي … ابن أسد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مُرّة بن كعب بن لؤيّ القرشيّ المخزوميّ ، وهو صحابي رفيع الشأن من عشيرة مخزوم التي عُرفت بالغنى والمكانة الرفيعة في مكة ، كما عُرفت قبل الإِسلام بشدة عداوتها للنبي صلى الله عليه وسلم .
وُلد صاحب الدار في مكة ، قبل البعثة النبوية بحوالي ست عشرة سنة ، وكان يجيد القراءة والكتابة ، واعيًا ، ذكيًّا ألمعيًّا ، حكيمًا ، وسيمًا ، قسيمًا ، ولذا لم يخطر ببال أحدٍ في قريش ، أن يدخل هذا الفتى المخزومي الثري ، في دين محمد ، وأن تكون داره هي مكان الدعوة .
– إسلام أبي بكر ودعوته للآخرين :
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت : خرج أبو بكر يريد رسول الله ، وكان صديقًا للنبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية ، فلقيه فقال : يا أبا القاسم .. فُقِدتَ من مجالس قومك واتهموك بالعيب لآبائها وأمهاتها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني رسول الله أدعوك إلى الله عز وجل ، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من كلامه أسلم أبو بكر ، فانطلق عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وما بين الأخشبين أحدٌ أكثر سرورًا منه بإسلام أبي بكر ، ومضى أبو بكر وراح لعثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص فأسلموا ، ثم جاء الغد عثمان بن مظعون وأبا عبيدة بن الجراح وعبد الرحمن بن عوف وأبا سلمة بن عبد الأسد و” صاحب الدار ” ، فأسلموا -رضي الله عنهم- .
– دارُ الإسلام :
تلك الدار الجليلة التي ينشرُ ذكرها عبق الدعوة الإسلامية في مهدها ، حيث السِّريّة التامة ، والتضحية النادرة ، والتعاليم النبوية غضة طرية من فم النبي صلى الله عليه وسلم .
إنها مصنع الأوائل الأفذاذ ، وسادة الناس ، الذين حملوا هَـمّ الدعوة إلى الله ، فأسلم ببركة جهدهم وجهادهم ، العرب والعجم ، في شتى بقاع المعمورة .
– الأوائل :
أسلم كثيرٌ من الصحابة الأوائل -رضي الله عنهم- قبل أن يدخل النبي صلى الله عليه وسلم هذه الدار المباركة ؛ منهم أبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب وخباب وعامر بن فهيرة ومعمر بن الحارث وواقد بن عبدالله وعثمان بن مظعون وعبيدة بن الحارث وعبد الرحمن بن عوف وأبو سلمة بن عبد الأسد وأبو عبيدة بن الجراح وغيرهم . (سير أعلام النبلاء : 3/119)
– سِرِّية الدعوة :
كانت الدار المباركة على جبل الصفا ، قريبة من الكعبة ، وهي المنطقة التي لا يسكنها إلا أثرياء قريش وكبارها ، وهذا يدل على مكانة الفتى الطيب الذكي ، كما أن جميع الآيات القرآنية التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم خلال ثلاث سنوات من بداية الدعوة ، وكانت تتداول سرًا بين المسلمين ، كُتبت كلها في داره ، ومعظمها كان بخط يده .
ولذا ستظل هذه الدار المباركة هي ” دار الإسلام ” وجامعته الأولى ، ونقطة انطلاق العقيدة للعالم .
بقى الرسول صلى الله عليه وسلم مدة ثلاث سنوات يدعو الناس إلى الإسلام بشكل سرِّي في هذه الدار ، وحين ازداد اضطهاد المشركين للنبي -عليه الصلاة والسلام- وأصحابه ، أخذوا يختفون فيها ويقيمون صلاتهم ومحادثاتهم السرية ، ويتعلمون القرآن ويتلقون عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كل جديد من الوحي ويتدارسه معهم ويأمرهم باستظهاره وفهمه .
وفى هذه الدار أسلم كبار الصحابة وأوائل المسلمين حتى بلغوا أربعين فردًا ، فخرجوا يجهرون بالدعوة إلى الله .
– خداع استراتيجي :
كانت الدارُ بعيدةً عن أعين المشركين وتفكيرهم ، وبمعزلٍ عن المتربصين بالمسلمين في مكة ، وكان اختيار هذه الدار بالذات لتكون مأوىً للمستضعفين والمطاردين ، خداعًا استراتيجيًّا وعسكريًّا من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لكفار قريش ، فلم يتقابل المسلمون في دار النبي صلوات ربي وسلامه عليه ، أو في دار أبي بكر ، أو عليّ ، أو كبار الصحابة الذين أسلموا ، ولكنهم اختاروا دارًا لا تخطر على بال أحدٍ ؛ لأن صاحب الدار الداهية ، كتم إسلامه ، ولم يخبر حتى أقاربه ، ليحمي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه .
بالإضافة إلى أن هذا الفتى كان صغيرًا ، ولن تبحث قريش في بيوت الصبيان عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وكان من قبيلة بني مخزوم ، العدو التاريخي لبني هاشم التي ينتمي إليها النبي صلى الله عليه وسلم .
– انشقاق القمر :
يُروى أن الرسول صلى الله عليه وسلم استشهده صاحب الدار على واقعة شق القمر المرويّة ، فيما أخرجه الحافظ أبو نعيم عن ابن عباس في قوله تعالى : ” اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ “. (القمر : 1)
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس : اجتمع المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، منهم الوليد بن المغيرة ، وأبو جهل بن هشام ، والعاص بن وائل ، وغيرهم من عتاة الكُفر ، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إن كنت صادقًا ، فشق لنا القمر فرقتين ، نصفًا على جبل أبي قبيس ونصفًا على قعيقعان ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : ” إن فعلت هل تؤمنون ؟ ” ، قالوا : نعم ، وكانت ليلة بدر ، فسأل الله عز وجل أن يعطيه ما سألوا ، فأمسى القمر نصفًا على هذا الجبل ونصفًا على ذاك .. ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي : ” يا أبا سلمة بن عبد الأسد و ….. اشهدا ” ، وذكر اسم صاحب الدار رضي الله عنه .
– هجرة صاحب الدار :
هاجر -رضي الله عنه- مع المهاجرين إِلى المدينة المنورة ، وأقام في حيّ بني زريق ، وعُرف بيته أيضًا هناك بدار .…. ، وقد آخى الرسول -صلى الله عليه وسلم- بينه وبين أبي طلحة زيد بن سهل ، وكان سعد بن أبي وقاص صديقًا حميمًا له .
شهدَ صاحبنا غزوة بدر ، وأحد ، والخندق ، والغزوات كلها ، ولم يتخلف عن الجهاد ، وأعطاه الرسول -صلى الله عليه وسلم- دارًا بالمدينة في بني زريق ، واستعمله على الصدقة .
– الخروج إلى بيت المقدس :
تجهّز صاحب الدار يومًا ، وأرادَ الخروج إلى بيتِ المقدس ، فلما فرغَ من التجهيز والإعداد ، جاءَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليودّعهُ ، فقالَ لهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” ما يخرجكَ يا أبا عبد الله ، أحاجة أم تجارة ؟ ” ، فقالَ لهُ : يا رسول الله ! بأبي أنت وأمى ، إني أريد الصلاة في بيتِ المقدس .
فقال لهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” صلاة في مسجدي هذا خيرٌ من ألفِ صلاة فيما سواه إلا المسجدِ الحرام ” ، فجلس ، وعادَ إلى دارهِ مطيعًا للنبي صلى الله عليه وسلم ، ومُنفّذًا لأوامره .
– وفاته :
ظل -رضي الله عنه- على عهده وجهاده في سبيل الله ، بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، فشارك في جميع المعارك والفتوحات التي تمت في عهد الخلفاء الراشدين ، باحثًا عن الشهادة ، لا يبخل بماله ولا بنفسه ، ولما استشعر قرب أجله في عهد معاوية بن أبي سفيان ، أوصى بأن يصلي عليه سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- ومات سنة 55 هـ ، وكان سعد غائبًا عن المدينة آنذاك ، فأراد مروان بن الحكم -أمير المدينة- أن يصلي عليه ، فرفض ابنه عبيد الله ، فقال مروان : أيُحبس صاحب رسول الله لرجلٍ غائب ؟
رفض ابنه عبيد الله أن يصلي عليه أحدٌ غير سعد بن أبي وقاص ، وتبعه بنو مخزوم على ذلك ، حتى جاء سعد ، وصلى عليه .
قال ابنه عثمان : تُوفيَ أبي سنة 53 هـ ، وله 83 سنة .