الصراط المستقيم ، هدية الملك الفتاح العليم ، الرحمن الرحيم .
وهو الطريق القويم ، الذي يبعدنا عن الشيطان الرجيم ، ويوصلنا إلى جنات النعيم ، بإذن الله العلي العظيم ، سبحانه من عليمٍ حكيم .
والصراط في اللغة : الطريق ، ففي ( لسان العرب ) نقلًا عن الجوهري : الصراط والسراط الطريق ، قال الشاعر :
أكر على الحروريين مهري … وأحملهم على وضح الصراطِ
والصراط المستقيم طريق الحق الذي جاء به الوحي ، قال تعالى : ” اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ” (الفاتحة : 6-7) ، وقال سبحانه : ” وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ” (الأنعام : 153) .
– الهداية إلى الصراط المستقيم :
هي -والله- أكبر نعمة ينعم بها ربنا الهادي جل في علاه على من يشاء من عباده .
فعلى العبد المؤمن المخبت إلى ربه أن يسأله سبحانه وبحمده الهداية إلى الصراط المستقيم .
وهو يفعلها في اليوم والليلة سبع عشرة مرة على الأقل في صلاته ، كما في سورة الفاتحة : ” اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ “. (الفاتحة : 6)
– عشر مراتب :
يقول العلماء ، كما في جاء في ( الموسوعة العقدية ) :
ويشهد من ( اهدنا ) عشر مراتب ، إذا اجتمعت حصلت له الهداية .
المرتبة الأولى : هداية العلم والبيان ، فيجعله عالمًا بالحق مدركًا له .
الثانية : أن يقدره عليه ، وإلا فهو غير قادر بنفسه .
الثالثة : أن يجعله مريدًا له .
الرابعة : أن يجعله فاعلًا له .
الخامسة : أن يثبته على ذلك ، ويستمر به إلى الوفاة .
السادسة : أن يصرف عنه الموانع والعوارض المضادة له .
ومعلوم أن وساوس العبد وخواطره ، وشهوات الغي في قلبه ، كل منها مانع من وصول أثر الهداية إليه ، فإن لم يصرفها الله عنه لم يهتد هدى تامًا ، فحاجته إلى هداية الله له مقرونة بأنفاسه ، وهي أعظم حاجة للعبد .
السابعة : أن يهديه في الطريق نفسها هداية خاصة ، أخص من الأولى ، فإن الأولى هداية إلى الطريق إجمالًا ، وهذه هداية فيها وفي منازلها تفصيل .. فإن العبد قد يهتدي إلى طريق قصده ، تتميز له الطرق عن غيرها ، ولا يهتدي إلى تفاصيل سيره فيها ، ولأوقات المسير من غيره ، وزاد المسير ، وآفات الطرق .
الثامنة : أن يشهده المقصود في الطريق ، وينبهه عليه ، فيكون مطالعً له في سيره ، وملتفتًا إليه .
التاسعة : أن يشهده فقره وضرورته إلى هذه الهداية ، فوق كل ضرورة ، في ظاهره وباطنه ، في جميع ما يأتيه ويذره .
ويدخل في هذا أن يهدي غيره ويعلمه ، فيصير هاديًا مهديًّا ، كما في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : (( اللهم زينا بزينة الإيمان ، واجعلنا هداة مهتدين )).
يعني نهدي غيرنا ونهتدي في أنفسنا ، وهذه أفضل الدرجات أن يكون العبد هاديًا مهديًّا .. قال تعالى : ” وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا “. (السجدة : 24)
العاشرة : أن يشهده طريق المنحرفين عن الهداية ، وهما : طريق أهل الغضب ، الذين عدلوا عن أتباع الحق قصدًا وعنادًا ؛ وطريق أهل الضلال ، الذين عدلوا عنها جهلًا وضلالًا .
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل ربه الهداية ، ويحث أصحابه على سؤال الله الهداية .
وليتأمل القارئ اللبيب ، هذا الحديث النبوي الشريف :
عن أبي ذر رضي الله عنه : عن النبي صلى الله عليه وسلم -فيما روى عن الله تبارك وتعالى- أنه قال : ” يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته ، فاستهدوني أهدكم “. (رواه مسلم)
أي : اطلبوا مني الهداية ، أوفقكم إلى سلوك طريقها .
هذا والله الهادي إلى سواء السبيل .
– اسم الله الهادي :
قال الله تعالى : ” مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ “. (التغابن : 11)
” الهادي ” اسم من أسماء الله الحسنى ، ومعناه أنه يهدي القلوب إلى معرفته والنفوس إلى طاعته ، فيهدي الخلائق لذاته بما أشهدهم من مخلوقاته إلى ما فيه حياتهم ، وهو الذي أعطى كل شيء خلقه ، ثم هدى .
قال تعالى : ” إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ ٱلأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ “. (يونس : 9)
ويعرف الإمام الغزالي الهادي سبحانه بأنه هو الذي هدى خواص عباده أولًا إلى معرفة ذاته ، حتى استشهدوا بها على معرفة ذاته ، وهدى عوام عباده إلى مخلوقاته ، حتى استشهدوا بها على ذاته ، وهدى كل مخلوق إلى ما لا بد منه في قضاء حاجاته ، فهدى الطفل إلى التقام الثدي عند انفصاله ، والفرخ إلى التقاط الحب وقت خروجه ، والنحل إلى بناء بيته على شكل التسديس لكونه أوفق الأشكال لبدنه ، وأحواها وأبعدها من أن يتخللها فرج ضائعة .
– الأنبياء والعلماء :
ويرى الرازي أن حظ العبد المؤمن من اسم الهادي أن يكون مشتغلًا بدعوة الخلق إلى الحق ، والله يقول في ( سورة النحل ) : ” ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ “.
ومن أدب المؤمن مع الهادي أن يشتغل بدعوة الخلق وهدايتهم إلى الحق ، وأن يرشدهم إلى مصالحهم الدينية والدنيوية جملة وتفصيلًا .
ويرى الغزالي أن الهادين من العباد هم الأنبياء والعلماء الذين أرشدوا الخلق إلى السعادة الدنيوية وهدوهم إلى صراط الله المستقيم ، وفي الحقيقة أن الله هو الهادي لهم على ألسنتهم وهم مسخرون تحت قدرته وتدبيره .
وقد سئلت السيدة عائشة رضي الله عنها : بأي شيء كان النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة إذا قام من الليل ؟ قالت : ” كان إذا قام من الليل يفتتح صلاته بقوله : اللهم رب جبريل وميكائيل واسرافيل ، فاطر السموات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون .. اهدني لما اختلفوا فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم “.
– أوصاف الصراط :
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في ( بدائع الفوائد ) : والصراط ما جمع خمسة أوصاف :
أن يكون طريقًا مستقيمًا ، سهلًا مسلوكًا ، واسعًا ، موصلًا إلى المقصود .
فلا تسمي العرب الطريق المعوج صراطًا ، ولا الصعب المشتق ، ولا المسدود غير الموصول .
ومن تأمل موارد الصراط في لسانهم واستعمالهم تبين له ذلك ، قال جرير :
أمير المؤمنين على صراطٍ … إذا اعوج الموارد مستقيمُ
وقال في مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين : ولا تكون الطريق صراطًا حتى تتضمن خمسة أمور : الاستقامة ، والإيصال إلى المقصود ، والقرب ، وسعته للمارين عليه ، وتعينه طريقًا للمقصود ، ولا يخفى تضمن الصراط المستقيم لهذه الأمور الخمسة .. فوصفه بالاستقامة يتضمن قربه ؛ لأن الخط المستقيم هو أقرب خط فاصل بين نقطتين ، وكلما تعوج طال وبعد ، واستقامته تتضمن إيصاله إلى المقصود ، ونصبه لجميع من يمر عليه ، يستلزم سعته ، وإضافته إلى المنعم عليهم ، ووصفه بمخالفة صراط أهل الغضب والضلال ، يستلزم تعينه طريقًا .
- يقول العلامة عبد الرحمن السعدي :
( اهدنا الصراط المستقيم ) : أي دلنا ووفقنا إلى الصراط المستقيم وهو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه ، وثبتنا عليه حتى الممات ، فطلب المسلم للهداية معناه الزيادة منها والموت عليها ، والصراط المستقيم هو صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ( غير ) صراط ( المغضوب عليهم ) وهم الذين عرفوا الحق وتركوه ، أو غَيَّروه وبدلوه كاليهود ( ولا ) صراط ( الضالين ) الذين تركوا الحق عن جهل وضلال كالنصارى .
قال ابن كثير : ولا أعلم بين المفسرين في هذا اختلافًا يعني : أن اليهود هم المغضوب عليهم ، والنصارى هم الضالون .
ومما ينبغي التنبيه عليه هنا ما ذكره العلامة محمد بن عبد الوهاب النجدي رحمه الله في شرحه لسورة الفاتحة : أن بعض الناس إذا سمع مثل هذا يظن أنه مقصور على اليهود والنصارى فقط ، والصواب أنه يتناول كل من عمل عملهم وسار سيرتهم .
ويستحب لمن يقرأ سورة الفاتحة أن يقول بعدها : آمين .. وليست من الفاتحة قطعًا كما يتوهمه بعض العوام .. ومعناها : اللهم استجب .
- ويقول العلامة ابن باز رحمه الله :
يقول ربنا سبحانه وتعالى : ” اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ “. (الفاتحة : 6-7)
يعلِّم عباده أن يدعوه بهذا الدعاء ، فإذا قال العبد : اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ، يقول الله : هذا لعبدي ، ولعبدي ما سأل .
هكذا جاء في الحديث الصحيح .. فجدير بك -يا عبدالله- أن تَصْدُق في هذا الدعاء ، وأن تخلص في هذا الدعاء ، وأن يكون قلبك حاضرًا حين تقوله ، ومعنى اهدنا : أرشدنا يا ربنا ودلنا ، وثبتنا ووفقنا .. تسأل ربك أن يهديك هذا الصراط ، وأن يرشدك إليه ، وأن يعلمك إياه ، وأن يثبتك عليه .
والصراط المستقيم هو : دين الله ، هو توحيد الله والإخلاص له ، وطاعة أوامره وترك نواهيه ، هذا هو الصراط المستقيم ، وهو عبادة الله ، وهو الإسلام والإيمان والهدى ، وهو الصراط المستقيم ، وهو العبادة التي أنت مخلوق لها ، ” وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ “. (الذاريات : 56)
هذه العبادة هي الصراط المستقيم ، ” إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ “. (آل عمران : 19)
والإسلام هو الصراط المستقيم ، وهو الإيمان بالله ورسوله ، وتوحيد الله ، وطاعته وترك معصيته ، هذا هو الصراط المستقيم : أن تعبد الله وحده دون كل ما سواه ، قال تعالى : ” وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ “. (الأنعام : 153)
- وفي تفسير الجلالين :
( اهدنا الصراط المستقيم ) أي أرشدنا إليه ، ويبدل منه : ( صراط الذين أنعمت عليهم ) بالهداية ويبدل من الذين بصلته ( غير المغضوب عليهم ) وهم اليهود ( ولا ) غير ( الضالين ) وهم النصارى ، ونكتة البدل إفادة أن المهتدين ليسوا يهودًا ولا نصارى والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا دائمًا أبدًا ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
[ وعن الشيخ محمود الرنكوسي تفسير ألطف ورد في مختصر تفسير ابن كثير مفاده أن المغضوب عليهم هم الذين عرفوا الحق وخالفوه أما الضالين فلم يهتدوا إلى الحق أصلًا ].- وفي التفسير الميسر :
” اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ “
دُلَّنا ، وأرشدنا ، ووفقنا إلى الطريق المستقيم ، وثبتنا عليه حتى نلقاك ، وهو الإسلام ، الذي هو الطريق الواضح الموصل إلى رضوان الله وإلى جنته ، الذي دلّ عليه خاتم رسله وأنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم ، فلا سبيل إلى سعادة العبد إلا بالاستقامة عليه .
” صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ “
طريق الذين أنعمت عليهم من النبيين والصدِّيقين والشهداء والصالحين ، فهم أهل الهداية والاستقامة ، ولا تجعلنا ممن سلك طريق المغضوب عليهم ، الذين عرفوا الحق ولم يعملوا به ، وهم اليهود ، ومن كان على شاكلتهم ، والضالين ، وهم الذين لم يهتدوا ، فضلوا الطريق ، وهم النصارى ، ومن اتبع سنتهم .
وفي هذا الدعاء شفاء لقلب المسلم من مرض الجحود والجهل والضلال ، ودلالة على أن أعظم نعمة على الإطلاق هي نعمة الإسلام ، فمن كان أعرف للحق وأتبع له ، كان أولى بالصراط المستقيم ، ولا ريب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أولى الناس بذلك بعد الأنبياء عليهم السلام ، فدلت الآية على فضلهم ، وعظيم منزلتهم ، رضي الله عنهم .. ويستحب للقارئ أن يقول في الصلاة بعد قراءة الفاتحة : ( آمين ) ، ومعناها : اللهم استجب ، وليست آية من سورة الفاتحة باتفاق العلماء ؛ ولهذا أجمعوا على عدم كتابتها في المصاحف .
ونحن نكررها هاهنا ، كما نكررها في صلاتنا :
” اهدنا الصراط المستقيم . صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين “.
آمين .