الشاكر والصابر

الشاكر والصابر :

عينٌ ترى ، لسانٌ ينطق ، أنفٌ يشم ، يدٌ تتحرك ، قدمٌ تسعى ، نومٌ هادئ ، صحة وعافية ، وأموال كافية ، وغير ذلك كثير ؛ فالحمد لله دائمًا أبدا .

وإذا حدث للمسلم غير ذلك ، وكانت هناك بعض الابتلاءات ؛ من مرضٍ ، أو همٍّ ، أو غمٍّ ، أو ضيقٍ ؛ كما قال الله سبحانه :

« وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ». (البقرة : 155-157)

فالأول نقول له : اعتدنا على النِعم حتى إننا إذا سُئلنا عن حالنا ، قلنا : لا جديد !!
هلا استشعرنا تجدّد العافية ، وبقاء النِعم ؟!

لك الحمد ربنا ، عدد خلايا أجسادنا المتعافية ، وعدد ساعاتنا التي لا نشكو فيها ، وعدد نعمك التي لا نحصيها .

الحمد لله ، عدد خلقه ، ورضا نفسه ، وزنة عرشه ، ومداد كلماته .

والآخر نقول له : ألم تسمع قول الملك جل في علاه وهو يقول : « وَبَشِّرِ ٱلصَّابِرِينَ ». (البقرة : 155)

أنصت إليه وهو يقول : « إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ». (الزمر : 10)

هذا هو ختام الآية العاشرة من سورة الزمر ، يبين الله عز وجل فيها عظم أجر الصابرين ، وأن أجرهم قد تعدى الموازين والحساب ، فلا يعلم جزاءهم إلا الله .

قال ابن كثير : قال الأوزاعي : ليس يُوزَن لهم ولا يُكَال ، وإنما يغرف لهم غرفًا . انتهى .

وقال أيضًا : قال ابن جريج : بلغني أنه لا يُحسَب عليهم ثواب عملهم قط ، ولكن يُزادون على ذلك .

وقد جاءت الآية عامة ، وهذا يفيد أنها تشمل جميع أنواع الصبر .

ياله من إلهٍ عظيمٍ رحيمٍ كريم .

” نعم العبد إنه أواب “ ؛ مدح الله بها كلًّا من عبده الشاكر سليمان ، وعبده الصابر أيوب عليهما السلام .

وفي هذا يقول سفيان بن عيينة رحمه الله : { إني قرأت القرآن فوجدت صفة سليمان عليه السلام مع العافية التي كان فيها ؛ قال الله عنه : ( نِعمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) ، ووجدت أيوب عليه السلام مع البلاء الذي كان فيه ، مدحه الله بقوله : ( إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِّعمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) ، فاستوت الصفتان ؛ وهذا مُعَافَى ، وهذا مُبتلَى ، فوجدت الشكر قد قام مقام الصبر ، فلما اعتدلا كانت العافية مع الشكر أحبَّ إلي من البلاء مع الصبر “.
( تهذيب الكمال : 139/11 ).

يقول الرب العليّ عن سليمان النبيّ :

« فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ». (النمل : 19)

ويقول علَّام الغيوب ، عن عبده ونبيه أيوب :

« وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَـذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ * وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ». (ص : 41-44)

يقول الله تعالى مخبرًا عن سليمان عليه السلام :
« وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ». (ص : 30)

يقول الله تبارك وتعالى مخبرًا أنه وهب لداود سليمان عليهما السلام ، أي : نبيًّا ، كما قال تعالى : « وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ » ؛ أي : في النبوة وإلا فقد كان له بنون غيره ، فإنه قد كان عنده مائة امرأة حرائر .

وقوله تعالى : « نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ » ثناء على سليمان بأنه كثير الطاعة والعبادة والإنابة إلى الله جل ثناؤه .

وعن أيوب عليه السلام ، يقول جل ثناؤه :
« وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ». (ص : 44)

قال الطبري رحمه الله : وقوله ( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا ) يقول : وقلنا لأيوب : خذ بيدك ضغثًا ؛ وهو ما يُجمَع من شيء مثل حزمة الرُّطْبة ، وكملء الكفّ من الشجر أو الحشيش والشماريخ ونحو ذلك مما قام على ساق .

يقول الضحاك في قوله تعالى ( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا ) ؛ يعني : ضِغْثًا من الشجر الرَّطْب ، كان حلف على يمين ، فأخذ من الشجر عدد ما حلف عليه ، فضرب به ضَرْبة واحدة ؛ فبرّت يمينه ، وهو اليوم في الناس يمين أيوب ، من أخذ بها فهو حسن .

وقوله ( إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ ) يقول : إنا وجدنا أيوب صابرًا على البلاء ، لا يحمله البلاء على الخروج عن طاعة الله ، والدخول في معصيته ( نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) يقول : إنه على طاعة الله مقبل ، وإلى رضاه رجَّاع .

ندعوكم لقراءة : الكريم والكليم

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
” عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ “. (رواه مسلم)

وقال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر ، كما جاء في [ موسوعة الأحاديث النبوية ] :

عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما مرفوعًا :
” ما يُصيب المسلم من نَصب ، ولا وصَب ، ولا هَمِّ ، ولا حَزن ، ولا أَذى ، ولا غَمِّ ، حتى الشوكة يُشاكها إلا كفَّر الله بها من خطاياه “. (متفق عليه)

إن ما يُصاب به المسلم من أمراض وهموم وأحزان وكروب ومصائب وشدائد وخوف وجزع إلا كان ذلك كفارة لذنوبه وحطًّا لخطاياه .

وإذا زاد الإنسان على ذلك : الصبر والاحتساب ؛ يعني : احتساب الأجر ، كان له مع هذا أجر .

فالمصائب تكون على وجهين : تارة : إذا أصيب الإنسان تذكر الأجر واحتسب هذه المصيبة على الله ، فيكون فيها فائدتان : تكفير الذنوب ، وزيادة الحسنات .

وتارة يغفل عن هذا ، فيضيق صدره ، ويصيبه ضجر أو ما أشبه ذلك ، ويغفل عن نية احتساب الأجر والثواب على الله ، فيكون في ذلك تكفير لسيئاته .

إذًا هو رابح على كل حال .

فإما أن يربح تكفير السيئات ، وحط الذنوب بدون أن يحصل له أجر ؛ لأنه لم ينوِ شيئًا ولم يصبر ولم يحتسب الأجر ، وإما أن يربح شيئين : تكفير السيئات ، وحصول الثواب من الله عز وجل كما تقدم .

ولهذا ينبغي للإنسان إذا أصيب ولو بشوكة ، فليتذكر احتساب الأجر من الله على هذه المصيبة ، حتى يؤجر عليها ، مع تكفيرها للذنوب .

وهذا من نعمة الله سبحانه وتعالي وجوده وكرمه ، حيث يبتلي المؤمن ثم يثيبه على هذه البلوى أو يكفِّر عنه سيئاته .

الحط للخطايا يحصل للصغائر ، دون الكبائر التي لا ترفعها إلا التوبة النصوح .

هل تعلم يا عبدالله يا مسلم ، أن المحافظة على الصلاة في وقتها تضبط اضطراباتك النفسية ، وتُخلّصك من الهموم والأحزان التي تشعر بها ، وتجعلك أكثر اتزانًا في حياتك .

قال تعالى
« إِن الْإِنسَان خُلِق هلُوعًا * إِذَا مسهُ الشرُّ جزُوعًا * وَإِذَا مَسَّه الْخَيرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلينَ ». (المعارج : 19-22)

إلا المُصلين ؛ استثناء صريح .

قال القرطبي -رحمه الله- :
{ وإذا رأيت متكبرًا ؛ فاعلم أنه قليل الصلاة أو عديمها ؛ لا يجتمع كِبرٌ مع كثرة سجود }.
( تفسير القرطبي ).

Exit mobile version