البلاء المبين :
قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله ، عن ضيافة الابتلاء :
{ البلايا ضيوف فأحسن قِرَاهَا حتى ترحل إلى بلاد الجزاء مادحة لا قادِحة .
فلولا البلايا ؛ لوردنا القيامة مفاليس ، ولو فُتحت لك أستار الغيب لأحببت حزنك ، ولو رأيت كيفَ يُغرَف للصابر غرفًا من الثواب ، لانتشى قلبك وتلذذت بكل وخزة ألم ، فالحمد لله دائمًا وأبدًا }.
ويذكر بعض المفسرين كابن كثير والقرطبي أن الآية 124 في سورة البقرة : ” وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ” نزلت في بضعة أمور منها امتحانه في ذبح ولده ، ومن هذا الكبش الذي أُنزل على إبراهيم ليذبحه شُرع ذبح الأضاحي في يوم عيد الأضحى .
قال الله تعالى عن عبده وخليله إبراهيم عليه السلام :
” وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ “. (الصافات : 99-111)
قال خليل الرحمن عليه السلام :
إني مهاجر إلى ربي ، قاصد إلى الأرض المباركة أرض الشام ، فهو سبحانه من يتولى الصالحين ؛ يدلني إلى ما فيه الخير لي ، من أمر ديني ودنياي .
وقال في آية أخرى : ” وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا “. (مريم : 48)
قال ابن كثير رحمه الله تعالى :
وقوله : ( وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي ) أي : أجتنبكم وأتبرأ منكم ومن آلهتكم التي تعبدونها من دون الله ، ( وأدعو ربي ) أي : وأعبد ربي وحده لا شريك له ، ( عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا ) ، و ” عسى ” هذه موجبة لا محالة ، فإنه عليه السلام ، سيد الأنبياء بعد محمد صلى الله عليه سلم .
طلب الخليل من ربه أن يرزقه ولدًا صالحًا ؛ قال : يا رب هب لي منك ولدًا يكون من الصالحين الذين يطيعونك ، ولا يعصونك ، ويصلحون في الأرض ، ولا يفسدون .
فاستجاب اللّه له وقال : { فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ }.
قال السعدي رحمه الله :
وهذا إسماعيل عليه السلام بلا شك ، فإنه ذكر بعده البشارة بإسحاق ، ولأن اللّه تعالى قال في بشراه بإسحاق { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } ؛ فدل على أن إسحاق غير الذبيح .
ووصف اللّه سبحانه إسماعيلَ ، عليه السلام بالحلم .
ومرت الأيام والسنون ، وكبر إسماعيل وترعرع ، وصار يذهب مع أبيه ويمشي معه .
قال ابن كثير في التفسير :
وقد كان إبراهيم عليه السلام يذهب في كل وقت يتفقد ولده وأم ولده ببلاد ” فاران ” وينظر في أمرهما .
قال ابن عباس ، ابن عم سيد الناس ، ومجاهد وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وغيرهم :
( فلما بلغ معه السعي ) يعني : شب وارتحل وأطاق ما يفعله أبوه من السعي والعمل ، ( قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى ) ، والمعلوم من الدين بالضرورة أن رؤيا الأنبياء وحي .
فكان رد الابن الصابر المحتسب :
( قال يا أبت افعل ما تؤمر ) أي : امض لما أمرك الله من ذبحي ، ( ستجدني إن شاء الله من الصابرين ) أي : سأصبر وأحتسب ذلك عند الله عز وجل .
وصدق الذبيح عليه السلام ، فيما وعد ؛ قال الله تعالى عنه في سورة مريم : « واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولًا نبيًا * وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا ». (مريم : 54-55)
استسلم إبراهيم وولده وانقادا لأمر الملك جل في علاه ؛ إبراهيم امتثل أمر الله ، وإسماعيل طاعة الله وأبيه .
صرع الأب ابنه على وجهه ليذبحه من قفاه ، ولا يشاهد وجهه عند ذبحه ، ليكون أهون عليه .
قال ابن عباس وغيره : ( وتله للجبين ) : أكبه على وجهه .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما كما ذكر الإمام أحمد رحمه الله :
لما أُمر إبراهيم بالمناسك ، عرض له الشيطان عند السعي ، فسابقه فسبقه إبراهيم ، ثم ذهب به جبريل إلى جمرة العقبة ، فعرض له الشيطان ، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات ، وثم تله للجبين ، وعلى إسماعيل قميص أبيض ، فقال له : يا أبت ، إنه ليس لي ثوب تكفنني فيه غيره ، فاخلعه حتى تكفنني فيه .
فعالجه ليخلعه ، فنودي من خلفه : ( أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا ) ، فالتفت إبراهيم فإذا بكبش أبيض أقرن أعين .
قال ابن عباس : لقد رأيتنا نتبع ذلك الضرب من الكباش .
نادى الله تعالى ، خليله إبراهيم أن قد صدقت الرؤيا ، وفي هذا يقول الدكتور محمد سيد طنطاوي في [ الوسيط ] :
وقوله -سبحانه- : وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا ؛ أي : وعند ما صرع إبراهيم ابنه ليذبحه ، واستسلما لأمرنا .. نادينا إبراهيم بقولنا يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا ؛ أى : قد فعلت ما أمرناك به ، ونفذت ما رأيته في رؤياك تنفيذًا كاملًا ، يدل على صدقك في إيمانك ، وعلى قوة إخلاصك .
- جزاء المحسنين :
وجملة { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين } تعليل لما قبلها .
أى : فعلنا ما فعلنا من تفريج الكرب عن إبراهيم وإسماعيل ؛ لأن سنتنا قد اقتضت أن نجازى المحسنين الجزاء الذى يرفع درجاتهم ، ويفرج كرباتهم ، ويكشف الهم والغم عنهم .
- وإبراهيم الذي وَفَّى :
قال تعالى : « إن هذا لهو البلاء المبين ».
البلاء المبين ؛ أي : الاختبار الواضح الجلي ؛ حيث أُمِر بذبح ولده ، فسارع إلى ذلك مستسلمًا لأمر الله ، منقادًا لطاعته ؛ ولهذا قال الله الملك الحق : « وإبراهيم الذي وفى ». (النجم : 37)