سيرة الحبيب ﷺ

وفاة أبي طالب

وفاة أبي طالب :

( ٥٠ ) الحلقة الخمسون من سيرة الحبيب ﷺ :

تعالوا نبدأ الكلام بالصلاة والسلام على خير الأنام وآله وصحبه الكرام .

عرفنا في الحلقة الماضية كيف خرج النبي صلى الله عليه وسلم من شِعب أبي طالب ، هو ومن والاه من بني عبد مناف ، وذلك بعد ثلاث سنوات كاملة من الحصار والتجويع والمقاطعة الظالمة من قريش .

ولقد تكلمنا عن دور هشام بن عمرو في نقض صحيفة المقاطعة ، بالرغم من كونه كافرًا في ذلك الوقت !

ولقد شاء الله عز وجل بحكمته أن يتأخر فك الحصار ، وخروج المؤمنين من الشِّعب ثلاث سنوات ، وذلك ليصير المؤمنون بعد انتهاء الحصار أشد شكيمة ، وأعمق إيمانًا وأقوى تَمَسُّكًا بدينهم وعقيدتهم .

ولقد حدثت للنبي صلى الله عليه وسلم ، بعد خروجه من الشِّعب ، مصيبتان كبيرتان في وقت قصير ، وهما :
أولًا : وفاة عمه أبي طالب .
ثانيًا : وفاة زوجته العظيمة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها .

ولقد وقعت المصيبتان في وقت حرج للغاية ، لأن الدعوة كانت في فترة من أدق فتراتها ، ولكن تلك هي حكمة الله سبحانه ، والموت مصيبة كما قال تعالى : ” فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ “. (المائدة : 106)

والآن نتكلم عن المصيبتين بشيء من التفصيل :

  • وفاة أبي طالب :

اشتد المرض بأبي طالب ، ولم يلبث أن وافته المَنِيَّة ( أي الموت ) ، وكانت وفاته في السنة العاشرة من النبوة ، بعد الخروج من الشِّعب ، قبل وفاة خديجة رضي الله عنها بثلاثة أيام .

ولقد كان أبو طالب حصنًا تحتمي به الدعوة الإسلامية من هجمات الكبراء والسفهاء ، وكان من أكثر من يدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويساعد المسلمين .

ولقد كان موت أبو طالب سببًا في تغير الموقف في مكة تغيرًا كبيرًا ، فقد كان لأبي طالب مكانة كبيرة في مكة خاصة وأنه كان على دينهم ، فقد تجرأ الكفار على رسول الله تجرُّؤًا غير مسبوق ، حتى إن رسول الله قال : ” فَمَا نَالَتْ مِنِّي قُرَيْشٌ شَيْئًا أَكْرَهُهُ حَتَّى مَاتَ أَبُو طَالِبٍ “.

فمع أن الرسول ﷺ قد تعرض قبل ذلك لإيذاء من أهل مكة في حياة أبي طالب إلا أنه اعتبره وكأنه لم يكن ، بالقياس لما حدث بعد وفاة أبي طالب !!

ولقد اعترض سفيه من سفهاء قريش طريق رسول الله فنثر على رأسه التراب ، فدخل بيته والتراب على رأسه الشريف ، فقامت إليه إحدى بناته ، وجعلت تغسل التراب وهي تبكي ورسول الله يقول لها : ” لاَ تَبْكِي يَا بُنَيَّة ، فَإِنَّ اللهَ مَانِعٌ أَبَاك “.

فلذلك كان يجب أن يختفي أبو طالب من مسرح الأحداث كي لا يظن أحد أن الدعوة قائمة عليه ، وليعلم الجميع أن الدعوة مستمرة ؛ لأنها دعوة الله .

والمؤسف أن موت أبي طالب كان مأساويًّا إلى أبعد درجة ، لا لأنه مات فقط ، ولا لأنه كان ناصرًا للدعوة حاميًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، دافعًا لكيد أهل قريش من الكافرين ، جامعًا لبني هاشم وبني المطلب حول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مؤيدًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم باللسان والسنان ، ولكن لأنه مات كافرًا ، ولم يمت على الحق الذي طالما دافع عنه !!

فلقد علم الحق من بحيرا الراهب الذي نصحه بالعودة بمحمد صلى الله عليه وسلم من الشام خوفًا عليه من اليهود .

وعلم ذلك من صدق النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما أخبر به ، ولعل آخر ما شهده الصحيفة التي أكلتها الأَرَضة ولم يبق منها إلا ذكر الله كما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم .

وكما تعلمون ، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب عمه حبًّا جمًّا ، ويتمنى إسلامه .
فلما حضرته الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم ليدعوه للإسلام للمرة الأخيرة عسى الله أن يهديه قبل الموت ، فوجد عنده أبا جهل ، فرعون هذه الأمة ، يزوره في مرضه الأخير ، لا للاطمئنان على صحته ولكن للاطمئنان على وفاته كافرًا بإله محمد !!
لأن أبا طالب لو آمن حتى قبل موته بلحظات ، فإن هذا سيكون ضربة قاصمة للكفر بمكة ، وقد تؤمن قبيلة بني هاشم وبني المطلب إما اقتناعًا برأي أبي طالب ، وإما حَمِيَّة له ؛ ولذلك وقف أبو جهل عند رأس أبي طالب ليصده عن سبيل الله .
ولما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمه أبي طالب ، قال له : ” أَيْ عَمِّ ، قُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ ، كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ “.
فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُاللهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ : يَا أَبَا طَالِبٍ ، تَرغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ؟
يُذَكِّرانه بالتقاليد الموروثة وبديانة الأب ، وكم أهلكت التقاليد البالية كثيرًا من البشر !
وظل أبو طالب حائرًا بين الداعيتين ، داعية الخير وأعظم الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وداعية الشر فرعون هذه الأمة وإمام الضلال أبي جهل لعنه الله ، ومعه عبدالله بن أبي أمية .
فَلَمْ يَزَالاَ يُكَلِّمَانِهِ حَتَّى قَالَ آخِرَ شَيْءٍ كَلَّمَهُمْ بِهِ : عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ( أي عبادة الأصنام ).

لا حول ولا قوة إلا بالله !

ولقد حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم حزنًا شديدًا بسبب وفاة عمه كافرًا ، وذلك لما بذله عمه من جهد في سبيل حمايته والدفاع عنه .. وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : ” لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْهُ ” .. فَنَزَلَتْ : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } (التوبة: 113) ، ونزلت : { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ }. (القصص : 56)

ولقد رُوى أن الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رضي الله عنه قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : يَا رَسولَ اللهِ ، هلْ نَفَعْتَ أبَا طَالِبٍ بشَيءٍ ؟ فإنَّه كانَ يَحُوطُكَ ويَغْضَبُ لَكَ .
فقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم : ” نَعَمْ ، هو في ضَحضَاحٍ مِن نَارٍ ، لَوْلَا أنَا لَكانَ في الدَّرَكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ “.
( والمقصود بذلك أنه في جزء قليل من النار ، فُسِّر في حديث آخر بأن النار تصل إلى كعبيه فقط ، ولكن يغلي دماغه من هذه النار ، نسأل الله العافية ).

ولم يشفع رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب من أجل قرابته منه ، ولكن لدفاعه عنه وعن دعوته صلى الله عليه وسلم ، بدليل أنه لم يشفع لأبي لهب مثلًا ، وهو أيضًا عمه .

فالحمد لله على نعمة الإسلام ، وهي نعمة لا يُقَدِّرها ولا يشعر بها كثير من الناس الذين يرددون كلمة التوحيد دون فهم .

وتُعتبر وفاة أبي طالب درسًا للمؤمنين ليتأكدوا أنه لن ينفع عند الله نسب ولا حسب ، ولن ينفع إلا من أتى الله بقلبٍ سليم نقي من الشرك ، وهي نداء لكل من يفعل الخير :
[ إن أردت أن تنتفع بعملك فلا يكن لأجل حَمِيَّة أو قبلية ، بل اجعله خالصًا لله وحده كما قال تعالى : { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } (الكهف : 110) ].

وفي الحلقة القادمة بإذن الله نتكلم عن وفاة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها .

ونختم بخير ختام وهو الصلاة والسلام على نبينا الأمين وآله وصحبه الكرام .

ندعوكم لقراءة : مقدمة سيرة الحبيب ﷺ

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى