كما يقول الكتاب

والصبح إذا تنفس

والصبح إذا تنفس :

يقول الله الملك الحق في محكم التنزيل :
” وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ “. (التكوير : 17-18)

يفتح الله جل في علاه لبعض عباده ؛ فيفهمه المعنى والمغزى لآياته ، فيفيض عليه من بركاته وتجلياته ؛ كما قال سبحانه ” ففهمناها سليمان “ ، فنجد في كل زمان ومكان علماء ربانيين -نحسبهم كذلك ولا نزكيهم على الله- يقولون كلامًا مختلفًا ، يدخل مباشرة إلى القلوب ، ومن هؤلاء فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله تعالى ، فنسمعه يقول :

{ ذكر الليل بلفظ عسعس والصبح بالتنفس مما يدل من فهم المعاني على الإعجاز القرآنى فى تلك الآيات .
إن الرسالات التي سبقت الإسلام ظهرت جميعًا ثم اختفت ، ولما اختفت وانطمست معالمها طمت الجهالة في الدنيا كلها ، فكأن الليل قد أصبح ثابتًا ؛ لذلك كان لابد من نهار يأتي ليذهب بهذا الليل .
وكلمة ( عَسْعَسَ ) في اللغة كلمة معبرة ؛ لأنها تتكون من مقطعين هما ( عس عس ) العين والسين والعين والسين ، ومعنى ” عس ” أي سار في الظلام ومنه ” العسس ” ؛ أي الذي يعس في الظلام ليس ماشيًا على هُدى فهو يمد يديه كي يتعرف بها على الأشياء .
ونلاحظ أنه لم يقل ” والليل إذا عس فيه الناس ” ، بل نسب العس إلى الليل نفسه ، فالليل نفسه يعس ، فكأنه لا اهتداء له ، فنسب العس إلى الظرف ، فإذا كان الليل في ذاته -وهو الزمن- هو الذي يعس ، فكيف يكون حال الإنسان الذي يعيش فيه ؟!
وهذه هي بلاغة القرآن الكريم ، فعندما نعطي الشيء صفة منتهى الخفاء فهي للملتصق به أشد وأقوى .
فما دام الليل هو الذي يعسعس ، فيكون الذي فيه أشد عسعسة منه ، وذلك كما قال الله سبحانه وتعالى ضاربًا مثلًا للظلمة : ” أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا “. (سورة النور)
فيده التي يعرف مكانها جيدًا لا يراها ، فما بالك بالشيء الذي لا يعلم موقعه جيدًا ، فأتى بأشد شيء التصاقًا بالنفس ومع ذلك لا يراها .
فيقول جل شأنه : ” وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ” ثم يقول ” وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ” ، وكأن الصبح من وطأة ظلمة الليل قد أُرهِق بالظلمة ، ثم أخذ يتنفس ، كأنه كانت مخمودة أنفاسه .
وكذلك يعطينا هذا التعبير الحيوي معنى أن النهار وإشراق الضوء يمنحنا الهواء النقي للتنفس ، فبالليل يخرج ثاني أكسيد الكربون من الأشجار والخضراوات ، ثم بالصبح تنتج النباتات كلها الأكسجين الصالح الذي يجعل الناس تستطيع التنفس ، فالكون بالصبح ابتدأ بالتنفس .
وكأن ذلك رمز للرسالات التي كانت موجودة ثم ذهبت ، ثم طم الظلام بعدها فكان هذا الظلام يحتاج أن يخرج الله صبحًا .
صبح هداية وصبح يبعث خير النبي -صلى الله عليه وسلم- بالإسلام ، فكأن منهج النبي -صلى الله عليه وسلم- هو متنفس الصبح للبشرية }.

كلام الإمام الجليل محمد متولي الشعراوي يجب أن يُكتَب بماء الذهب ، ويجب علينا أيضًا أن نتصدى لهؤلاء الأقزام الذين يتطاولون على الإمام في وسائل الإعلام ، ولكنه عندنا عالي المقام ، ولن ينال منه هؤلاء اللئام ، بإذن الله الملك العلام .

– والصُّبْح إذا تنفس :

  • يقول الإمام القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة :

{ قوله تعالى : والصبح إذا تنفس ؛ أي امتد حتى يصير نهارًا واضحًا ؛ يقال للنهار إذا زاد : تنفس .
وكذلك الموج إذا نضح الماء .
ومعنى التنفس : خروج النسيم من الجوف .
وقيل : إذا تنفس أي انشق وانفلق ؛ ومنه تنفست القوس أي تصدعت }.

ولله در الشاعر القائل :

تنفس الصُّبحُ يهدينا بشائرَه … والشمسُ أشرق نورُها الوضَّاءُ

فعسى إلهُ العرشِ يُسعدُ يومَكم … وعسى عليكم تُسدَلُ النعماءُ

ندعوكم لقراءة : إعجاز القرآن في الليل والنهار

  • أقوال في معنى الآية :

قال الضحاك : إذا طلع .

وقال قتادة : إذا أضاء وأقبل .

وقال سعيد بن جبير : إذا نشأ ، وهو المروي عن علي رضي الله عنه .

وقال ابن جرير : يعني ضوء النهار إذا أقبل وتبين .

وقال البغوي : أقبل وبدا أوله .

قال الشاعر :

حتى إذا الصبح له تنفسا … وانجاب عنها ليلها وعسعسا

  • قال الإمام ابن كثير في التفسير :

إن المراد بقوله ( عسعس ) إذا أقبل ، وإن كان يصح استعماله في الإدبار ، لكن الإقبال هاهنا أنسب ، كأنه أقسم تعالى بالليل وظلامه إذا أقبل وبالفجر وضيائه إذا أشرق كما قال : ” وَٱلْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ * وَٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ “. (الليل : 1-2)
وقال : ” وَٱلضُّحَىٰ * وَٱللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ “. (الضحى : 1-2)
وقال : ” فَالِقُ ٱلإِصْبَاحِ وَجَعَلَ ٱلْلَّيْلَ سَكَنًا “. (الأنعام : 96)
وغير ذلك من الآيات .
وقال كثير من علماء الأصول : إن لفظة ” عسعس ” تستعمل في الإقبال والإدبار على وجه الاشتراك ؛ فعلى هذا يصح أن يراد كل منهما .
والله أعلم .

  • مع الوسيط ، وإمامنا ، شيخ الأزهر السابق ، الأستاذ الدكتور محمد سيد طنطاوي رحمه الله تعالى ، نسمعه في إذاعة القرآن الكريم بالقاهرة يقول :

{ وقوله : وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ .
وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ معطوف على ما قبله .
وداخل في حيز القسم .
وقوله عَسْعَسَ أدبر ظلامه أو أقبل ، فهذا اللفظ من الألفاظ التي تُستعمَل في الشيء وضده ، إلا أن المناسب هنا يكون المراد به إقبال الظلام ، لمقابلته بالصبح إذا تنفس ، أى : أضاء وأسفر وتبلج .
وقيل : العسعسة : رقة الظلام وذلك في طرفي النهار ، فهو من المشترك المعنوي ، وليس من الأضداد ؛ أى : أقبل وأدبر معًا .
أى : وحق النجوم التي تغيب بالنهار ، وتجرى في حال استتارها .. وحق الليل إذا أقبل بظلامه ، والصبح إذا أقبل بضيائه }.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى