مات على الكفر
مات على الكفر :
عجيبٌ أمر أبي طالب بن عبد المطلب ، ذلكم الرجل الذي تيقن أن ابن أخيه محمدًا صلى الله عليه وسلم على الحق ، وآزره وناصره ، ومع ذلك مات على الكفر ، ودخل النار .
وقد نُقل عنه أنه قال :
ولقد علمت بأن دين محمدٍ … من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبةٍ … لوجدتني سمحًا بذاك يقينا
كان أبو طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يحب ابن أخيه محمدًا حبًّا شديدًا ، ويحوطه برعايته ، وينصره ، ويقوم في صفه .
ومع ذلك شاءت إرادة الله تعالى أن يموت على الكفر ، ويدخل النار .
روى البخاري ومسلم وغيرهما عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أنه قال : يا رسول الله : هل نفعت أبا طالب بشيء ؟ فإنه كان يحوطك ويغضب لك ، قال : ” نعم ، هو في ضحضاح من نار ، لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار “.
كان أبو طالب له عضدًا وناصرًا على قومه ، فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تطمع به في حياة أبي طالب .
- وعن وفاة أبي طالب :
قال الزهري : حدثني سعيد بن المسيب ، عن أبيه -وهو المسيب بن حزن المخزومي ، رضي الله عنه- قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوجد عنده أبا جهل بن هشام ، وعبدالله بن أبي أمية بن المغيرة . فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : ” يا عم ، قل : لا إله إلا الله ، كلمة أشهد لك بها عند الله ” .. فقال أبو جهل وعبدالله بن أبي أمية : يا أبا طالب ، أترغب عن ملة عبد المطلب ؟
فلم يزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعرضها عليه ، ويعودان له بتلك المقالة ، حتى قال آخر ما قال : هو على ملة عبد المطلب .
وأبى أن يقول : لا إله إلا الله.
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : ” أما لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك “.
فأنزل الله عز وجل : « مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن يَسۡتَغۡفِرُواْ لِلۡمُشۡرِكِينَ وَلَوۡ كَانُوٓاْ أُوْلِي قُرۡبَىٰ » (التوبة : 113) ، وأنزل في أبي طالب : « إِنَّكَ لَا تَهۡدِي مَنۡ أَحۡبَبۡتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُ ». (القصص : 56)
روى البخاري ومسلم وأحمد والترمذي والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : لما حضرت وفاة أبي طالب أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال :
” يا عماه قل لا إله إلا الله ، أشهد لك بها يوم القيامة ” ، فقال : لولا أن تعيرني قريش يقولون : ما حمله عليه إلا جزع الموت ، لأقررت بها عينك ، ولا أقولها إلا لأقر بها عينك ، فأنزل الله عز وجل : « إِنَّكَ لَا تَهۡدِي مَنۡ أَحۡبَبۡتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُۚ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُهۡتَدِينَ ».
وهكذا قال عبدالله بن عباس وابن عمر ومجاهد والشعبي وقتادة : إنها نزلت في أبي طالب ، حين عرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول : لا إله إلا الله .
- فاطمة بنت أسد :
أسلمت فاطمة بنت أسد زوج أبي طالب وأم علي وجعفر ، ومات أبو طالب على الكفر ، ومع ذلك لم يفرق بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك كان قبل تحريم بقاء المؤمنات تحت الكفار ؛ لأن أبا طالب مات عام الحزن ، وهو قبل الهجرة بثلاث سنين ، وتحريم بقاء المؤمنات في عصم الكفار نزل في صلح الحديبية العام السادس من الهجرة .
أخرج الشيخان ( البخاري ومسلم ) عن المسور ومروان بن الحكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عاهد كفار قريش يوم الحديبية جاءت نساء من المؤمنات ، فأنزل الله :
« يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ … إلى قوله تعالى : وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ». (الممتحنة : 10)
فوفاة أبي طالب ، ونزول تحريم بقاء المؤمنات في عصم الكفار بينهما تسع سنين .
- رأي لابن كثير :
قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى :
( وكان استمرار أبو طالب على دين قومه من حكمة الله تعالى ، ومما صنعه لرسوله من الحماية ، إذ لو كان أسلم أبو طالب لما كان له عند مشركي قريش وجاهة ولا كلمة ، ولا كانوا يهابونه ويحترمونه ، ولاجترأوا عليه ، ولمدوا أيديهم وألسنتهم بالسوء إليه ).
- شقيق أبيه :
كان أبو طالب ، واسمه عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم القرشي ، عمُّ النبي صلى الله عليه وسلم الأقرب ، وشـقيق أبيه من أم واحدة ، هي فاطمة بنت عمرو بن عائذ ، وكافله ومربيه ومناصره ، ووالد علي رضي الله عنه ، كان من أبطال بني هاشم ورؤسائهم ، ومن الخطباء العقلاء الأباة .
وُلد في مكة ونشأ فيها ، وتزوج من فاطمة بنت أسد بن هاشم ، وهي التي ربَّت النبي صلى الله عليه وسلم ، وكفلته مع أولادها ، وكان له أولاد ذكور وإناث منهم : طالب ، وعقيل ، وأم هانئ ، وغيرهم .
- شفقته على النبي :
يقول الشيخ صالح المغامسي :
وأبو طالب لم يرزق الإيمان ، لكنه رزق حظًا كبيرًا من نصرة النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى ورد فيما بلغ من عظيم شفقته على ابن أخيه أنه لما حوصر بنو هاشم في الشعب كان أبو طالب إذا أمسوا ونام النبي صلى الله عليه وسلم يأتي ويحمل ابن أخيه محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم في مكان ويأتي بأحد أبنائه في مكانه ؛ وذلك خوفًا من غدر قريش أن يقتله أحدهم صلى الله عليه وسلم ، ولهذا شفع النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب عند ربه .
ونحن نعلم أن شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم الخاصة به ثلاثة أقسام : شفاعة في دفع ما يضر ؛ وهي شفاعته صلى الله عليه وسلم في أهل الموقف ، وشفاعة في جلب ما يسر ؛ وهذه شفاعته صلى الله عليه وسلم في أهل الجنة أن تفتح لهم أبواب الجنة ، وشفاعة خاصة به في عمه أبي طالب -نظرًا لأنه مات على الكفر- ، فأبو طالب أهون أهل النار عذابًا بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم له .
- ذرية أبي طالب :
وأبو طالب ترك من الذرية طالبًا ومات على الشرك ، وكان يُكنى به وهو أكبر أبنائه ، وجعفر الطيار ولقد أسلم قديمًا وهو جعفر بن أبي طالب الصحابي الجليل ، وأحد الخمسة الذين يشبهون النبي صلى الله عليه وسلم في هيئته الخلقية ، وقد كان بعض قرابته يشبهونه صلى الله عليه وسلم خلقيًا منهم : جعفر ، وأبو سفيان بن الحارث ابن عمه وأخوه من الرضاعة ، والحسن سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقثم والفضل ابنا عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وابنا العباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه .
المقصود من هذا : أن من ذرية أبي طالب طالبًا وقد مات على الشرك ، وجعفرًا وعقيلًا وهذا أسلم متأخرًا ، وعليًّا رضي الله عنه وأرضاه ، وسيرة علي تغني عن التعريف به ، وغيرهم .
فهذا أبو طالب أحد أعمام النبي صلى الله عليه وسلم وأعظم من نصر نبينا صلى الله عليه وسلم .