لله الحمد والمنة
لله الحمد والمنة ، أن جعلنا من أهل الكتاب والسُّنَّة ، بعد أن بعث فينا رسولًا منَّا ، يتلو علينا آياته محكمةً وبالغُنَّة ؛ لنرتقي بها درجاتٍ في الجَنَّة .
قال الله تعالى في كتابه العزيز :
” لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ “. (آل عمران : 164)
– أكبر النعم :
أكبر النعم التي امتن الله بها على عباده ، بل أصلها ، هي الامتنان عليهم بهذا الرسول الكريم الذي أنقذهم الله به من الظلمات إلى النور ، وعصمهم به من الهلكة ، ليصل بهم إلى الإيمان والبركة ، فقال عز من قائل : ” لَقَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنْفُسِهِمْ ” (آل عمران : 164) ، يعرفونه حق المعرفة ، يعرفون حسبه ونسبه ، وصدقه وأمانته ، هو من قومهم وقبيلتهم ، ناصحًا لهم ، مشفقًا عليهم ، قال الله المنان في محكم القرآن : ” لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ “. (التوبة : 128)
{ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ } يتلو عليهم آيات الله ، يعلمهم ألفاظها ومعانيها .. { وَيُزَكِّيهِمْ } من الشرك ، والمعاصي ، والرذائل ، وسائر مساوئ الأخلاق .. و{ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ } إما جنس الكتاب الذي هو القرآن ، فيكون قوله : { يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ } المراد به الآيات الكونية ، أو المراد بالكتاب -هنا- الكتابة ، فيكون قد امتن عليهم ، بتعليم الكتاب والكتابة ، التي بها تدرك العلوم وتحفظ ، { وَٱلْحِكْمَةَ } هي : السُّنَّة ، التي هي شقيقة القرآن ، أو وضع الأشياء مواضعها ، ومعرفة أسرار الشريعة .. فجمع لهم بين تعليم الأحكام ، وما به تنفذ الأحكام ، وما به تدرك فوائدها وثمراتها ، ففاقوا بهذه الأمور العظيمة جميع المخلوقين ، وكانوا من العلماء الربانيين ، { وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ } بعثة هذا الرسول { لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ } لا يعرفون الطريق الموصل إلى ربهم ، ولا ما يزكي النفوس ويطهرها ، بل ما زيّن لهم جهلهم فعلوه ، ولو ناقض ذلك عقول العالمين .
- إنها المِنَّة العظمى والكرم الإلهي الأسمى ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء من العرب ليكون رسولًا إليهم من أنفسهم ومن أجلهم مكانة لكي ينقذهم من الظلمات إلى النور ويطهرهم ويربيهم ويؤهلهم لقيادة العالم .
– قال الإمام السعدي رحمه الله :
هذه المنة التي امتن الله بها على عباده ، أكبر النعم ، بل أصلها ، وهي الامتنان عليهم بهذا الرسول الكريم الذي أنقذهم الله به من الضلالة ، وعصمهم به من الهلكة ، فقال : { لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولًا من أنفسهم } يعرفون نسبه ، وحاله ، ولسانه ، من قومهم وقبيلتهم ، ناصحًا لهم ، مشفقًا عليهم ، يتلو عليهم آيات الله ، يعلمهم ألفاظها ومعانيها .. { ويزكيهم } من الشرك ، والمعاصي ، والرذائل ، وسائر مساوئ الأخلاق .
و{ يعلمهم الكتاب } إما جنس الكتاب الذي هو القرآن ، فيكون قوله : { يتلو عليهم آياته } المراد به الآيات الكونية ، أو المراد بالكتاب -هنا- الكتابة، فيكون قد امتن عليهم ، بتعليم الكتاب والكتابة ، التي بها تدرك العلوم وتحفظ ، { والحكمة } هي : السنة ، التي هي شقيقة القرآن ، أو وضع الأشياء مواضعها ، ومعرفة أسرار الشريعة .
فجمع لهم بين تعليم الأحكام ، وما به تنفذ الأحكام ، وما به تدرك فوائدها وثمراتها ، ففاقوا بهذه الأمور العظيمة جميع المخلوقين ، وكانوا من العلماء الربانيين ، { وإن كانوا من قبل } بعثة هذا الرسول { لفي ضلال مبين } لا يعرفون الطريق الموصل إلى ربهم ، ولا ما يزكي النفوس ويطهرها ، بل ما زين لهم جهلهم فعلوه ، ولو ناقض ذلك عقول العالمين .
– وقال الإمام القرطبي في تفسيره :
وقوله : ( لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولًا من أنفسهم ) أي : من جنسهم ليتمكنوا من مخاطبته وسؤاله ومجالسته والانتفاع به ، كما قال تعالى : ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها ) [ الروم : 21 ] أي : من جنسكم .
وقال تعالى : ( قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي ) [ الكهف : 110 ] ، وقال تعالى : ( وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ) [ الفرقان : 20 ] وقال تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك إلا رجالًا نوحي إليهم من أهل القرى ) [ يوسف : 109 ] وقال تعالى : ( يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم ) [ الأنعام : 130 ].
فهذا أبلغ في الامتنان أن يكون الرسل إليهم منهم ، بحيث يمكنهم مخاطبته ومراجعته في فهم الكلام عنه ، ولهذا قال : ( يتلو عليهم آياته ) يعني : القرآن ، ( ويزكيهم ) أي : يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر لتزكو نفوسهم وتطهر من الدنس والخبث الذي كانوا متلبسين به في حال شركهم وجاهليتهم ، ( ويعلمهم الكتاب والحكمة ) يعني : القرآن والسنة ، ( وإن كانوا من قبل ) أي : من قبل هذا الرسول ( لفي ضلال مبين ) أي : لفي غي وجهل ظاهر جلي بيِّن لكل أحد .
– قال البغوي رحمه الله :
( لقد مَنَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولًا من أنفسهم ) قيل : أراد به العرب لأنه ليس حي من أحياء العرب إلا وله فيهم نسب إلا بني ثعلبة ، دليله قوله تعالى : ( هو الذي بعث في الأميين رسولًا منهم ) وقال الآخرون : أراد به جميع المؤمنين ومعنى قوله تعالى : ( من أنفسهم ) أي : بالإيمان والشفقة لا بالنسب ودليله قوله تعالى : ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ) ، و ( يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ) وقد كانوا ، ( من قبل ) أي : من قبل بعثه ( لفي ضلال مبين ).
– مع [ الوسيط ] لشيخ الأزهر السابق الدكتور محمد سيد طنطاوي :
يقول -رحمه الله تعالى- :
لقد أعطى الله -تعالى- المؤمنين من النعم ما أعطى ، لأنه قد بعث فيهم رسولًا من جنسهم يقرأ عليهم آيات الله التي أنزلها لهدايتهم وسعادتهم ، وَيُزَكِّيهِمْ أى يطهرهم من الكفر والذنوب .
أو يدعوهم إلى ما يكونون به زاكين طاهرين مما كانوا عليه من دنس الجاهلية والاعتقادات الفاسدة .
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ بأن يبين لهم المقاصد التي من أجلها نزل القرآن الكريم ، ويشرح لهم أحكامه ، ويفسر لهم ما خفي عليهم من ألفاظه ومعانيه التي قد تخفى على مداركهم .
فتعليم الكتاب غير تلاوته : لأن تلاوته قراءته مرتلًا مفهومًا ، أما تعليمه فمعناه بيان أحكامه وما اشتمل عليه من تشريعات وآداب .
ويعلمهم كذلك الْحِكْمَةَ أى الفقه في الدين ومعرفة أسراره وحكمه ومقاصده التي يكمل بها العلم بالكتاب .
وهذه الآية الكريمة قد اشتملت على عدة صفات من الصفات الجليلة التي منحها الله تعالى لنبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم .
ثم بيّن -سبحانه- حال الناس قبل بعثة الرسول صلّى الله عليه وسلّم فقال وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ .
أي : إن حال الناس وخصوصًا العرب أنهم كانوا قبل بعثة الرسول صلّى الله عليه وسلّم إليهم في ضلال بيِّن واضح لا يخفى أمره على أحد من ذوي العقول السليمة والأذواق المستقيمة .
وحقًّا لقد كان الناس قبل أن يبزغ نور الإسلام الذي جاء به صلّى الله عليه وسلّم من عند ربه في ضلال واضح ، وظلام دامس ، فهم من ناحية العبادة كانوا يشركون مع الله آلهة أخرى ، ومن ناحية الأخلاق تفشت فيهم الرذائل حتى صارت شيئًا مألوفًا ، ومن ناحية المعاملات كانوا لا يلتزمون الحق والعدل في كثير من شئونهم .
- الخلاصة :
ويخلص الدكتور طنطاوي إلى أن الضلال والجهل وغير ذلك من الرذائل ، كانت قد استشرت في العالم بصورة لا تخفى على عاقل .
فكان من رحمة الله بالناس ومنته عليهم أن أرسل فيهم نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم لكي يخرجهم من ظلمات الكفر والفسوق والعصيان إلى نور الهداية والاستقامة والإيمان .
– التفسير اللغوي :
تفسير قوله تعالى : ” لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ “.
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت : 207هـ) : { وقوله : ” ويزكّيهم ” يأخذ منهم الزكاة ؛ كما قال تبارك وتعالى : ” خذ من أموالهم صدقةً تطهّرهم وتزكّيهم بها “}. (معاني القرآن : 1/245)
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت : 311هـ) : { وقوله جلّ وعزّ : ” لقد منّ اللّه على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولًا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين “.
بعث اللّه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- رسولًا وهو رجل من الأميين لا يتلو كتابًا ولا يخطه بيمينه ، وبعثه بين قوم يخبرونه ويعرفونه بالصدق والأمانة وأنه لم يقرأ كتابًا ولا لقّنه فتلا عليهم أقاصيص الأمم السالفة ، والأنبياء الماضية لا يدفع أخباره كتاب من كتب مخالفته ، فأعلم اللّه أنه مَنَّ على المؤمنين برسالة من قد عرف أمره ، فكان تناول الحجة والبرهان وقبول الأخبار والأقاصيص سهلًا من قبله وفي ذلك أعظم المنة .
وقد جاء في التفسير : إنّه يراد رسول من العرب ولو كان القصد في ذلك -واللّه أعلم- أن أمره إنما كانت فيه المنة أنه من العرب لكان العجم لا حجة عليهم فيه .
ولكن الأمر -واللّه أعلم- أن المنّة فيه أنه قد خبر أمره وشأنه وعلم صدقه ، وأتى بالبراهين بعد أن قد علموا إنّه كان واحدًا منهم }. (معاني القرآن : 1/487)
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت : 338هـ) : { وقوله عز وجل : ” لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولًا من أنفسهم ” ؛ أي : ممن يعرفونه بالصدق والأمانة وجاءهم بالبراهين ولم يعرفوا منه كذبًا قط }. (معاني القرآن : 1/507)
قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت : 345هـ) : { ” لقد من الله ” ؛ أي : تفضل الله ” على المؤمنين ” : على المصدقين .
والمنان : المتفضل .. والحنان : الرحيم }.