لغة الضاد

قصيدة إذا الشعب يومًا أراد الحياة

– قصيدة ( إذا الشعب يومًا أراد الحياة ) :

إذا الشـــعبُ يومًــا أراد الحيــاة
فــلا بــدّ أن يستجيب القــدرْ

ولا بــــدَّ لليـــل أن ينجـــلي
ولا بــــدّ للقيـــد أن ينكســـرْ

ومــن لــم يعانقْـه شـوْقُ الحيـاة
تبخَّـــرَ فــي جوِّهــا واندثــرْ

فــويل لمــن لــم تَشُــقهُ الحيـاة
مــن صفْعــة العــدَم المنتصـرْ

كـذلك قــالت لــيَ الكائنــاتُ
وحـــيد ثني روحُهـــا المســـتترْ

ودمــدمتِ الــرِّيحُ بيــن الفِجـاج
وفــوق الجبــال وتحـت الشـجرْ

إذا مـــا طمحــتُ إلــى غايــةٍ
ركــبتُ المُنــى ونسِـيت الحـذرْ

ولــم أتجــنَّب وعــورَ الشِّـعاب
ولا كُبَّـــةَ اللّهَـــب المســـتعرْ

ومن يتهيب صعود الجبال
يعش أبَــدَ الدهــر بيــن الحــفرْ

فعجَّــتْ بقلبــي دمــاءُ الشـباب
وضجَّــت بصـدري ريـاحٌ أخَـرْ

وأطـرقتُ أصغـر قصـف الرعـد
وعــزفِ الريــاحِ ووقـعِ المطـرْ

وقـالت لـي الأرضُ – لمـا سـألت:
أيــا أمُّ هــل تكــرهين البشــرْ؟

أُبــارك فـي النـاس أهـلَ الطمـوح
ومــن يســتلذُّ ركــوبَ الخــطرْ

وألْعــنُ مــن لا يمشــي الزمـانَ
وقـــع بــالعيْشِ عيشِ الحجَــرْ

هــو الكــونُ حـيٌّ يحـبُّ الحيـاة
ويحتقر المَيْــتَ مهمــا كــبُرْ

فـلا الأفْـق تحـزن ميْـتَ الطيـورِ
ولا النحــلُ يتــم ميْــتَ الزهـرْ

ولــولا أمُومــةُ قلبِــي الــرّؤوم
لَمَــا ضمّــتِ الميْـتَ تلـك الحُـفَرْ

فــويلٌ لمــن لــم تشُــقه الحيـاة
مِــن لعنــة العــدم المنتصِـرْ!

وفــي ليلــة مـن ليـالي الخـريف
مثقَّلـــةٍ بالأســـى والضجـــرْ

ســكرتُ بهـا مـن ضيـاء النجـوم
وغنَّيْــتُ للحُــزْن حــتى ســكرْ

سـألتُ الدُّجـى: هـل تُعيـد الحيـاةُ
لمـــا أذبلته ربيــعَ العمــرْ؟

فلـــم تتكـــلّم شــفاه الظــلام
ولــم تــترنَّمْ عــذارى السَّــحَرْ

وقــال لــيَ الغــابُ فــي رقَّـةٍ
مُحَبَّبَـــةٍ مثــل خــفْق الوتــرْ

يجــي الشــتاءُ شـتـاء الضبـاب
شـتـاء الثلــج شـتـاء المطــرْ

فينطفــئُ السِّـحرُ سـحرُ الغصـونِ
وســحرُ الزهــورِ وسـحرُ الثمـرْ

وســحرُ السـماءِ الشـجيُّ الـوديعُ
وســحرُ المـروجِ الشـهيُّ العطِـرْ

وتهـــوِي الغصــونُ وأوراقُهــا
وأزهــارُ عهــدٍ حــبيبٍ نضِــرْ

وتلهــو بهـا الـريحُ فـي كـل وادٍ
ويدفنُهَــا الســيلُ, أنَّــى عــبرْ

ويفنى الجــميعُ كحُــلْمٍ بــديعٍ
تـــألّق فـــي مهجــةٍ واندثــرْ

وتبقــى البــذورُ التــي حُـمِّلَتْ
ذخــيرةَ عُمْــرٍ جــميلٍ, غَــبَرْ

وذكــرى فصــولٍ ورؤيـا حيـاةٍ,
وأشــباحَ دنيــا تلاشــتْ زُمَـرْ

معانقــةً – وهـي تحـت الضبـابِ
تحــت الثلـوجِ تحـت المَـدَرْ

لِطَيْــفِ الحيــاةِ الــذي لا يُمَــلُّ
وقلــبِ الــربيعِ الشــذيِّ الخـضِرْ

وحالمـــةً أغـــاني الطيـــورِ
وعِطْــرِ الزهــورِ وطَعـمِ الثمـرْ

ويمشـي الزمـانُ, فتنمو صـروفٌ,
وتــذوِي صــروفٌ تحيـا أُخَـرْ

وتُصبِـــحُ أحلامُهـــا يقظَـــةً
مُوَشَّـــحةً بغمـــوضِ السَّــحَرْ

تُســائل: أيــن ضبـابُ الصبـاحِ
وسِــحْرُ المسـاء وضـوء القمـرْ

وأســرابُ ذاك الفَــراشِ الأنيق
ونحــلٌ يغنِّــي وغيــمٌ يمــرْ؟

وأيـــن الأشـــعَّةُ والكائنــاتُ؟
وأيــن الحيــاةُ التــي أنتظــرْ؟

ظمِئـتُ إلـى النـور فـوق الغصونِ!
ظمِئـتُ إلـى الظـلِ تحـت الشـجرْ!

ظمِئـتُ إلـى النَّبْـعِ بيـن المـروجِ,
يغنِّــي ويــرقص فـوقَ الزّهَـرْ!

ظمِئــتُ إلــى نَغَمــاتِ الطيـورِ
وهَمْسِ النّســيمِ, ولحــنِ المطــرْ

ظمِئـتُ إلـى الكـونِ! أيـن الوجـودُ
وأنَّـــى أرى العــالَمَ المنتظــرْ؟

هـو الكـونُ خـلف سُـباتِ الجـمودِ
وفـــي أُفــقِ اليقظــاتِ الكُــبَرْ

ومـــا هــو إلا كخــفقِ الجنــاحِ
حــتى نمـا شــوقُها وانتصـرْ

فصَـــدّعت الأرضَ مـن فوقهـا
وأبْصــرتِ الكـونَ عـذبَ الصُّـوَرْ

وجـاء الـــربيعُ بأنغامِـــه
وأحلامِـــه وصِبـــاه العطِــرْ

وقبَّلهـــا قُبَـــلاً فــي الشــفاهِ
تعيــدُ الشــبابَ الــذي قـد غَـبَرْ

وقــال لهــا: قـد مُنِحْـتِ الحيـاةَ
وخُــلِّدْتِ فــي نســلكِ المُدّخَــرْ

وبـــاركَكِ النُّـــورُ فاســتقبلي
شــبابَ الحيــاةِ وخِــصْبَ العُمـرْ

ومَــن تعبــدُ النــورَ أحلامُــه
يُبَارِكُـــهُ النّــورُ أنّــى ظهــرْ

إليــكِ الفضــاءَ إليــكِ الضيـاءَ
إليــك الثرى, الحـالمَ, المزدهـرْ!

إليــكِ الجمــالَ الــذي لا يَبيــدُ!
إليــكِ الوجـودَ الرحـيبَ النضِـرْ!

فميدي – كما شئتِ – فوق الحقولِ
بحــلوِ الثمــارِ وغــضِّ الزّهَــرْ

ينــاجي النســيمَ نـاجي الغيـومَ
ينــاجي النجــومَ, نـاجي القمـرْ

ينــاجي الحيـــاةَ وأشــواقَها
وفتنــةَ هــذا الوجــود الأغــرْ


  • شاعر قصيدة ( إذا الشعب يومًا أراد الحياة ) هو : أبو القاسم الشابي :
  • محطات سريعة :

– وُلد أبو القاسم الشابي فى قرية الشَابِية فى ولاية توزر بتونس .

– قضى والده الشيخ محمد الشابى حياته الوظيفية فى القضاء بمختلف المدن التونسية .

– تخرَّج أبو القاسم الشابى في جامعة الزيتونة .

– بدأت أعراض مرضه بالقلب تظهر عليه وذلك منذ عام 1929م .

– رغم مرضه بالقلب إلا أنه تزوج امتثالًا لرغبة والده .

– أجاز له طبيب يدعى محمد الماطرى الزواج ، لكنه حذره من العواقب .

– حالته الصحية تدهورت بعد الزواج .

– أصبح لا يتحرك تقريبًا .

– كان يقرأ ويكتب وهو راقد فى فراشه .

– رحل بعد إصابته بالقلب بخمس سنوات ، وبالتحديد فى 1934م .

ندعوكم لقراءة : قصيدة ابتسم لإيليا أبو ماضي

  • وإليكم بعض التفاصيل :

كانت حياة هذا الشاعر التونسى المبدع قصيرة لم تتجاوز 25 سنة ، وظل الناس ومحبو الشعر يذكرونه بمطلع إحدى قصائده الرائعة ، قصيدة ( إذا الشعب يومًا أراد الحياة ) ، يقول فيها :

« إذا الشعب يومًا أراد الحياة … فلابد أن يستجيب القدر
ولابد لليل أن ينجلي … ولابد للقيد أن ينكسر ».

وكان مولده في الرابع والعشرين من فبراير عام 1909م بقرية الشابية بتونس .

تخرج في جامعة الحقوق في 1934م ، وجاب المدن التونسية برفقة أبيه بحكم عمله كقاض .

بدت على شاعرنا الشاب الرقيق أعراض مرض القلب في 1929م ، وازدادت حالته سوءًا ، وتعرض لصدمة موت حبيبته ، كما لم يمتثل لنصيحة الأطباء بعدم الزواج ، لكنه امتثل بالتوقف عن الرياضة ، وساءت حالته أكثر في أواخر 1933م إلى أن تُوفى في التاسع من أكتوبر 1934م عن عمر ناهز الخامسة والعشرين .

حتى القرن الحادي والعشرين ، ظل الشابي واحدًا من أكثر الشعراء العرب قراءة على نطاق واسع للمتحدثين باللغة العربية .

وهو أيضًا أشهر شاعر تونسي في العالم العربي ، ومن أعظم الشعراء العرب في القرن العشرين ، وأعظم شعراء شمال أفريقيا في نفس القرن ، وشخصية مهمة في الأدب العربي الحديث .

أصبحت ترانيمه ” مؤثرة لشعراء تونس والعرب ” .. ولقد أُدرج شعره أيضًا في البرامج المدرسية والجامعية ، وأطروحاته مكرسة بانتظام له .. ترك الشابي ما مجموعه 132 قصيدة ومقالة ، نُشرت في مجلات مختلفة في كلٍّ من مصر وتونس ، لكنه لم يفلح على الرغم من ثلاث محاولات قام بها ، لنشر ديوانه ؛ وهو مجموعة من القصائد التي اختارها قبل وقت قصير من وفاته .

وقد نُشرت فقط في عام 1955م في القاهرة بعد 21 عامًا .

ولقد تم ذلك بفضل شقيقه الأمين ، وساعده الشاعر المصري أحمد زكي أبو شادي .

تُرجم الديوان إلى عدة لغات ، وأُعيد إصداره في عدة مناسبات ، لا سيما بمناسبة الذكرى السنوية الثلاثين لوفاته ، مع مقدمة كتبها الأمين الشابي .

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى