شيخ الإسلام
شيخ الإسلام :
تميز بالجدية العلمية ، والتمكن المعرفي والموضوعية ، وانفرد بمسائل علمية وعملية ؛ سببت له محنًا وعداوات ومناظرات منهجية ، وسُجن أكثر من مرة ومات في قلعة دمشق السورية .
وكان رحمه الله ذكيًّا كريمًا شجاعًا ، عازفًا عن الراحة الدنيوية .
عاش في عصر انتشرت فيه العقائد المنحرفة الغبية ، وسادت فيه الفرق الضالة المفترية ؛ فانبرى على كل الأصعدة مصلحًا ما فسد من أمور العقائد والأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية .
تميز بذكاء العقل وزكاء القلب ؛ فاتصفت سيرته بالشمولية .
تشربت نفسه بالمعارف الإلهية ، وتدرج في العلم وفق منهجية .
قرأ الفلسفة اليونانية ، وكانت له مع خصومه أدلة قوية ؛ وذلك عن طريق الجدية العلمية ، والمنهجية المعرفية ، والقيم الأخلاقية .
حارب التتار بشجاعة عنترية .
من أشهر تلاميذه ابن قيم الجوزية .
هو تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام الحراني .
وُلد شيخ الإسلام بحران يوم الاثنين عاشر أو ثاني عشر ربيع الأول عام 661هـ ، ثم سافر به والده إلى دمشق واستوطنها عام 667هـ .
تلقى العلم على والده وآخرين من مشيخة زمانه كشرف الدين المقدسي الشافعي خطيب دمشق ومفتيها ، وتقي الدين الواسطي إبراهيم بن علي الصالحي الحنبلي ، والمنجا بن عثمان التنوخي الدمشقي وغيرهم .
كان يمتاز بأمور أهمها :
- قوة حافظته ، وسرعة إدراكه لما يسمع أو يقرأ .
- محافظته على الوقت منذ صغره .
- قوة تأثيره وحجته .
- تبحره في علم المنقول والمعقول أصولًا وفروعًا في المسائل العلمية والعملية .
- جهاده بالسيف والحجة، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر ، فجهاده للتتار وأهل البدع والضلال معروف لا يخفى .
- انفراده بمسائل علمية وعملية سببت له محنًا وعداوات ومناظرات ، وسجن أكثر من مرة ومات في السجن -رحمه الله- بسببها .. وقد توفي -رحمه الله- في القلعة في يوم الاثنين تاسع جمادى الآخرة عام 728هـ .
قال الإمام الذهبي عنه : ( الشيخ الإمام العالم ، المفسر ، الفقيه ، المجتهد ، الحافظ ، المحدث ، شيخ الإسلام ، نادرة العصر ، ذو التصانيف الباهرة ، والذكاء المفرط ).
وقال : ( … ونظر في الرجال والعلل ، وصار من أئمة النقد ، ومن علماء الأثر مع التدين والنبالة ، والذكر والصيانة ، ثم أقبل على الفقه ، ودقائقه ، وقواعده ، وحججه ، والإجماع والاختلاف حتى كان يقضى منه العجب إذا ذكر مسألة من مسائل الخلاف ، ثم يستدل ويرجح ويجتهد ، وحق له ذلك فإن شروط الاجتهاد كانت قد اجتمعت فيه ، فإنني ما رأيت أحدًا أسرع انتزاعًا للآيات الدالة على المسألة التي يوردها منه ، ولا أشد استحضارًا لمتون الأحاديث ، وعزوها إلى الصحيح أو المسند أو إلى السنن منه ، كأن الكتاب والسنن نصب عينيه وعلى طرف لسانه ، بعبارة رشيقة ، وعين مفتوحة ، وإفحام للمخالف … ).
وقال : ( … هذا كله مع ما كان عليه من الكرم الذي لم أشاهد مثله قط ، والشجاعة المفرطة التي يُضرب بها المثل ، والفراغ عن ملاذ النفس من اللباس الجميل ، والمأكل الطيب ، والراحة الدنيوية ).
ومما قاله في رثائه :
يا موتُ خذ من أردت أو فدع … محوت رسم العلوم والورع
أخذت شيخ الإسلام وانقصمت … عُرَى التقى واشتفى أولو البدع
غيبت بحرًا مفسرًا جبلًا … حَبْرًاً تقيًّا مجانب الشيع
أسكنه الله في الجنان ولا … زال عليًّا في أجمل الخلع
مضى ……… وموعده … مع خصمه يوم نفخة الفزع
وقال فيه : ( … كان قوالًا بالحق ، نهاءً عن المنكر ، لا تأخذه في الله لومة لائم ، ذا سطوة وإقدام ، وعدم مداراة الأغيار ، ومن خالطه وعرفه قد ينسبني إلى التقصير في وصفه … ).
وقال عنه : ( … لا يؤتى من سوء فهم ، بل له الذكاء المفرط ، ولا من قلة علم فإنه بحر زخار ، بصير بالكتاب والسنة ، عديم النظير في ذلك ، ولا هو بمتلاعب بالدين ، فلو كان كذلك لكان أسرع شيء إلى مداهنة خصومه وموافقتهم ومنافقتهم ، ولا هو ينفرد بمسائل بالتشهي .. فهذا الرجل لا أرجو على ما قلته فيه دنيا ولا مالًا ولا جاهًا بوجه أصلًا ، مع خبرتي التامة به ، ولكن لا يسعني في ديني ولا في عقلي أن أكتم محاسنه ، وأدفن فضائله ، وأبرز ذنوبًاً له مغفورة في سعة كرم الله تعالى … ).
وقال الشوكاني رحمه الله : ( إمام الأئمة المجتهد المطلق ).
رحم الله شيخ الإسلام ، وأسكننا وإياه في الفردوس الأعلى من جنته .
( نقلا عن كتاب ” دعاوى المناوئين لشيخ الإسلام ابن تيمية ” للدكتور عبدالله الغصن ).
– ونكمل مع هذا العَلَم :
تميز الإمام -رحمه الله- بصفات فذة جعلته علمًا بارزًا ، وتتمثل تلك الصفات الفريدة في الجدية العلمية والتمكن المعرفي والموسوعية ، ورسوخ القدم وطول الباع في شتى العلوم حتى إن سامعه يظن إذا وجده يتكلم في علم أنه لا يحسن غيره لما يظهر من تمكن وتعمق كما ذكر ذلك معاصروه .
ولقد زكى هذه المعرفة بالإخبات والتأله ، فبدا فيه ائتلاف العقل والقلب ، ذكاء العقل وزكاء القلب ، فجمع بين العلم المكين والدين المتين ؛ وبذلك يُظهر صورة للمسلم المثالي في صفاء علمه ونقاء روحه ، واتصفت سيرته بالشمولية والتوازن ؛ فهو العالم والمجاهد والمحتسب والمصلح الاجتماعي والابن البار والأستاذ الفذ وغيرها من الأدوار التاريخية المشرفة .
قضى حياته الحافلة بالعطاء وهو يحمل هم الأمة في كل ميدان ، ويقارع أعداء الإسلام على مختلف مشاربهم باللسان والسنان .
كان بحق رجل أمة ؛ فقد كان امرأً تام الرجولة ، وكان للأمة كما يجب أن يكون عظماء الرجال لأممهم .
في الجانب العلمي ثمة جوانب مشرقة تدهش الناظر في سيرة الرجل ، فقد كان في صباه طُلَعة ، شغوفًا بالعلم ، فيه من روح المسؤولية وجِد العقلاء ما يبشر بما يكون له من شأن في ما بعد ، صاحب روح متوثبة طامحة و نهم معرفي ، ويمتلك منهجًا صلبًا فأصبح إمامًا في فنون شتى .
ونهمته للعلم وارتياحه النفسي للاشتغال به أمر ظاهر في سيرته كما في قصة مرضه ومنع الأطباء له من الاشتغال بالعلم ورده المقنع عليهم بأنه من المسلم لديهم أن من الأسباب الجالبة للشفاء أن تشتغل النفس بما فيه راحتها .
كان الإمام قويًّا في تفكيره ، وفي جدله بما راض عقله على العلوم العقلية من الحساب والجبر والمقابلة والفرائض ، والعلوم العقلية من الفلسفة والكلام وأصول الفقه .
وامتن الله -تعالى- عليه بهذه المواهب العقلية ؛ فانصرف بكليته إلى العلم وبدا فيه الإدراك العميق للدور الرسالي المرتقب ممن ينتسب إلى أمة الشهادة على الأمم ، أمة الإسلام ، فتدرج في العلم وفق منهجية بفضل نشأته في بيت عريق في العلم حتى صار له في كل فن القدح المعلى .
والمتأمل في علمه المتصف بالعمق والاتساع معًا يدرك أن وراء ذلك التوفيق فضل الله ، وفي سيرة الشيخ منذ صباه من العبودية لله والتذلل له والانقطاع إليه ما يدل على صلته بالله واستشعاره أن الفضل بيد الله وأن العقلية الفذة والذكاء اللماح والذهن المتقد لا يوصل إلى الحق وإلى رضوان الله إلا عبر الطريق الذي شرعه المولى عز وجل .
درس شيخنا كل ما عرف في عصره من نحل ومذاهب دراسة واسعة وعميقة ، تحدوه إلى ذلك رغبة حارة في الوقوف على كنه هذه المذاهب وإدراك حقائقها .
قرأ الفلسفة ووقف على دقائقها ، وكان يعرف الفلسفة اليونانية القديمة بدليل ما ينقله من آراء أفلاطون وأرسطو ومقارنته بينهما ، وكذلك عرف المنطق الأرسطي ونقده رغم انتفاعه به كثيرًا في مناقشته للفرق المختلفة .
وأوتي شيخ الإسلام مهارات أعانته في ميدان البحث والمناظرة ، تتمثل في شدة العارضة وحدة الذكاء وقوة الذاكرة أدت إلى قطع حجج خصومه ، وبسبب ما يتميز به طرحه العلمي من تماسك معرفي وأدلة قوية واستنباطات صحيحة ؛ فقد تأثر بأقواله بعض دارسي تراثه كما في حالة ( آية الله العظمى ) أبو الفضل البرقعي الذي ما إن قرأ كتابه ” منهاج السنة ” حتى تبين له الحق ، فألف كتابًا سماه ” كسر الصنم ” ويعني بالصنم كتاب ” الكافي ” للكليني ، وترك عقيدة الرفض .
وآخرون أرادوا قراءته من منطلق نقدي لمخالفتهم له ؛ فانقلبوا معجبين ومتفقين معه كما في قصة العلامة الشيخ محمد خليل هراس أستاذ التوحيد والمنطق الأزهري رحمه الله .
وكان من أبرز صفات شيخنا الإمام : العدل والإنصاف مع المخالفين وذكر محاسن المناوئين وعدم بخسهم حقوقهم حتى قال تلميذه ابن القيم : ” ليت أنَّا نكون لأصحابنا كما يكون لأعدائه ! “.
وكان منهجه رحمه الله يرتكز على الاعتصام بالكتاب والسنة وتعظيم الوحي ، والدوران مع الأثر ، والأخذ بفهم السلف والدلالة على علمهم المبارك ؛ ومن ثم فتراثه ظاهر فيه فقه الأثر وعمق النظر واستصحاب مقاصد الشرع الحكيم .
ويجدر بأهل عصرنا الاستفادة من مدرسته : الثقة بالمنهج وأخذ الكتاب بقوة ووضوح الجادة وعدم الاضطراب أمام المناهج الوافدة وامتلاك مهارات النقد والمحاكمة بإيجابية فكرية واعتزاز معرفي .
وبعد ، فإن أبا العباس فيه من العَلَم ( والعَلَم هو الجبل ) شموخه ، ورسوخه ، وثباته ، وعظمته ، و يزري بنفسه من يناطحه ولمّا يتأهل بعد لقراءته .
ولا يحسن ها هنا أن يُقال :
وابن اللبون إذا ما لُز في قرن … لم يستطع صولة البزل القناعيس
فشتان ما بين البحر والسراب .
بل الأنسب أن يُنشد لهؤلاء الصغار :
قام الحمام على البازي يهدده … واستيقظت لأسود الغاب أضبعه
أضحى يسد فم الأفعى بأصبعه … يكفيه ما ستلاقي منه أصبعه
ولا يعني ذلك أن شيخ الإسلام لا يَرد عليه الخطأ ، فذلك أمر مفروغ منه ، وإنما يجمل بمن يرد عليه أن يحسن القراءة حتى يحسن الكتابة .
أما الخيانة العلمية فقادحة فيمن ينتسب إلى العلم ، وأما سوء الفهم الناتج عن قصور العلم أو برودة الذهن فما ذنب الشيخ حتى يتجنى عليه المنتقد ؟!
إن تراث الرجل يتكفل بالرد على نقدته ، وكلامه له أهله و ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ، والله ولي المتقين .
– وفاته :
دخل شيخ الإسلام السجن في شعبان سنة 726هـ ، ومكث في السجن إلى ان توفاه الله في السادس والعشرين من ذي القعدة سنة 728هـ ، حيث مرض بضعة وعشرين يومًا ولم يعلم أكثر الناس بمرضه ، وفوجئوا بموته .
ذكر خبر وفاته مؤذن القلعة على منارة الجامع وتكلم به الحرس على الأبراج فتسامع الناس بذلك واجتمعوا حول القلعة حتى أهل الغوطة والمرج ، وفُتح باب القلعة فامتلأت بالرجال ، وكانت جنازة عظيمة جدًّا .
ودُفن في دمشق .
كنا مع شيخ الإسلام : ابن تيمية .
عليه سحائب الرحمات .