رحلة الطائف 1
رحلة الطائف 1 :
( ٥٢ ) الحلقة الثانية والخمسون من سيرة الحبيب ﷺ :
تعالوا نبدأ الكلام بالصلاة والسلام على خير الأنام و آله وصحبه الكرام .
رحلة ” الطائف ” و إيذاء الحبيب ﷺ :
كنا قد توقفنا في الحلقة الماضية عند موت خديجة رضي الله عنها ، زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم الوفية المخلصة ، بعد وفاة عمه أبو طالب بوقت قصير .
وعرفنا كيف حزن النبي صلى الله عليه وسلم لوفاتهما حزنًا شديدًا .
ولقد تضاعف الإيذاء للنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة أبي طالب وخديجة رضي الله عنها ، فكان المشركون يُلقون عليه الحجارة والرمال عندما يمشي فى طرقات مكة ويتوعدونه بالقتل .
وكان موت أبي طالب وخديجة رضي الله عنها في هذا التوقيت الحَرِج من عمر الدعوة ليزداد يقين النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس له ناصر ومعين إلا ربه سبحانه وتعالى ، وأن الله إذا قبض عزيزًا لعبده ، فإن ذلك يكون لحكمة هو يعلمها .
ولقد استسلم النبي صلى الله عليه وسلم وصبر ورضي بقضاء ربه وتوكل على الله حق التوكل .. واستمرت قريش في إيذائها له صلى الله عليه وسلم .
ففكَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرج بدعوته خارج مكة لأول مرة منذ البعثة ، فقرر أن يذهب إلى بلد آخر يدعوهم إلى الإسلام ويطلب نصرتهم ومساندتهم .
وقبل ذلك لم يخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة للدعوة لأن أبواب الدعوة كانت مفتوحة فيها ولو بمشقة وصعوبة .
وهذا أمر في غاية الأهمية ؛ فالداعية لا يترك مكانه إلا إذا استحالت عليه الدعوة فيه وأغلقت أبوابها تمامًا ، فالأقربون أولى بالمعروف ، والمسؤولية نحو أهل البلد أعلى من المسئولية نحو غيرهم .
لكن المسلم لا يجلس مستكينًا ضعيفًا يقول : لقد منعوا الدعوة بل يجب أن تكون له رسالة واضحة وهي إرشاد الناس لعبادة رب العالمين .. فإن لم يتيسر ذلك في بلده ، فأرض الله واسعة .
ولكن ما البلد الذي اختاره النبي صلى الله عليه وسلم ، ولماذا ؟
لقد اختار النبي صلى الله عليه وسلم مدينة ” الطائف ” بعد دراسة وتفكير عميق .
لأن ” الطائف ” هي المدينة الثانية في الجزيرة العربية بعد مكة ، وكانت مركزًا حيويًّا مهمًّا من مراكز الكثافة السكانية والتجارة ، ولها مكانة في قلوب العرب ، حتى إن المشركين كانوا يقولون : ” لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيم “.
ويقصدون بالقريتين مكة والطائف .
فردَّ الله عز وجل عليهم فى الآية التي تليها بقوله : ” أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ “.
وكانت قبيلة ثقيف تسكن الطائف ، وهي من أقوى القبائل العربية ولو آمنت لكانت سندًا عظيمًا للدعوة بقوتها وكثرة عددها ، خاصة وأن الظاهر لرسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت أن قريشًا ستظل تحارب الإسلام في المستقبل ، وقد بلغ من قوة ثقيف أنها القبيلة الوحيدة التي استعصى على المسلمين دخول بلدها عنوة حتى جاء أهلها -بعد ذلك- مسلمين طوعًا .
كذلك كانت هناك منافسة دينية كبيرة بين مكة والطائف .. فمكة ، وإن كان بها البيت الحرام ، وبها أيضًا الصنم الذي كان يقدسه كثير من العرب وهو ” هُبل ” ، فإن الطائف كان بها صنم آخر من أهم أصنام العرب وهو ” اللَّات ” ، وكثيرًا ما كان يُقسم به العرب على اختلاف قبائلهم .
أما صنم ” العُزَّى ” فكان في وادي ” نخلة ” على مقربة أيضًا من الطائف .
فلو ذهب إليهم رسول الله بدعوته ، فلعلهم يدخلون فيها ، ويُسحَب بذلك البساط من تحت أقدام أهل مكة .
والطائف كانت قريبة أيضًا من مكة ، فالمسافة بينهما حوالي مائة كيلو متر ، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يرد أن يبتعد كثيرًا عن مكة ، حيث كان فيها أغلب المسلمين ، فالتعاون والتنسيق بين مكة والطائف سيكون أسهل وبالذات في هذا الزمن الذي كانت فيه المواصلات شاقة .
وكان لأغنياء قريش أملاك في الطائف ، فلو دخلت الطائف في الإسلام لكان ذلك ضربة اقتصادية موجعة لقريش .
من أجل ذلك ، كانت الطائف مكانًا مناسبًا للدعوة .
فلذلك قرر النبي صلى الله عليه وسلم الذهاب إليها في شوال من السنة العاشرة من البعثة بعد وفاة عمه أبو طالب وزوجته خديجة رضي الله عنها ، فلا وقت للسكون ، ولا للراحة .
وكانت الحرارة شديدة ، ومع ذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قرر أن يقطع هذه المسافة ماشيًا على قدميه ، فلو رآه أحد المشركين يركب دابة لشك في سفره ، ورسول الله ممنوع من السفر ، حتى لا ينَشُر الدعوة خارج مكة .
وكان في صحبة النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة ، وكان بمثابة الحامي والحارس له صلى الله عليه وسلم .
و يَصِلُ الرسول صلى الله عليه وسلم للطائف .
فهل سيأخذ قسطًا من الراحة بعد هذا السفر ؟
لا لن يرتاح ! سوف يذهب لسيد القبيلة يستأذنه في دخول البلد ، ويعرض عليه الإسلام ، ويطلب حمايته ليبلغ دعوته .
فهل سيوافق أم سيرفض ؟
وكيف سيكون تصرفه مع النبي صلى الله عليه وسلم ؟
نستكمل رحلة الطائف في الحلقة القادمة إن شاء الله .
ونختم بخير ختام وهو الصلاة والسلام على نبينا الأمين وآله وصحبه الكرام .