سيرة الحبيب ﷺ

تعذيب المشركين للمسلمين 2

تعذيب المشركين للمسلمين :

( ٢٦ ) الحلقة السادسة والعشرون من سيرة الحبيب ﷺ :

هيا بنا نبدأ بالصلاة على الحبيب ﷺ .

اللهم صلَّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ﷺ .

نستكمل في حلقة اليوم حديثنا عن بعض صور التعذيب الذي تعرَّض له المسلمون الأوائل من الصحابة رضوان الله عليهم في بداية البعثة .

ونذكر اليوم قصة زِنِّيرَة رضي الله عنها ، وهي صحابية جليلة من السابقين الأولين ومن مستضعفي المسلمين الذين كان يُعذِّبهم كفار قريش بمكة في بداية الدعوة .
وكانت زنيرة رضي الله عنها أَمَة رُومِيَّة قيل لآل الخطاب ، وهي من السبعة الأرِقَّاء الذين اشتراهم أبو بكر رضي الله عنه وأعتقهم لينقذهم من تعذيب أسيادهم ، وقد فقدت بصرها ، فقال المشركون أعمتها اللات والعزى ( أي أن آلهتهم انتقمت منها فأصابتها بالعمى لإسلامها ) .. فقالت بإيمانٍ قوي : كذبوا ، وما ينفع اللات والعزى ، ولا يَضُرَّان ، فردَّ الله بصرها بفضله ورحمته ليبطل أكاذيب المشركين .

ونتيجة للإيذاء الذي تعرَّض له المسلمون الأوائل ، صار الذي يُسلم بعد ذلك يُخفِي إسلامه خوفًا من التعذيب والإيذاء .

واستمرت اجتماعات النبي صلى الله عليه وسلم السرية بالمسلمين في دار الأرقم ، دون علم قريش ، ولكن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله جهرًا في العلن .

وظل إيذاء المشركين للمسلمين مستمرًا ، ومن أمثلة ذلك إيذاء أم جميل زوجة أبي لهب للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقد كانت تضع الحطب والشوك في طريقه صلى الله عليه وسلم حتى تجرح قدمه المباركة -بأبي هو وأمي- ، فنزل القرآن يتوَعَّدها بحبل من مسد في جهنم ؛ قال تعالى :
” وَٱمۡرَأَتُهُۥ حَمَّالَةَ ٱلۡحَطَبِ (٤) فِی جِیدِهَا حَبۡلࣱ مِّن مَّسَدِۭ (٥) “.

وعن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال :
{ لمَّا نزلت ” تَبَّتۡ یَدَاۤ أَبِی لَهَبࣲ ” ؛ جاءت امرأةُ أبي لهبٍ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ومعه أبو بكرٍ ، فلمَّا رآها أبو بكرٍ قال : يا رسولَ اللهِ ! إنَّها امرأةٌ بذيئةٌ ، وأخافُ أن تُؤذيَك ، فلو قُمتَ ! قال : ” إنَّها لن تراني ” .. فجاءت فقالت : يا أبا بكرٍ ! إنَّ صاحبَك هجاني ، قال : لا ، وما يقولُ الشِّعرَ ، قالت : أنتَ عندي مُصدَّقٌ ، وانصرَفَت ، فقُلتُ : يا رسولَ اللهِ ! لم ترَك ؟! قال :
” لا ، لم يزَلْ ملَكٌ يستُرُني منها بجناحَيْه ” }.

وكانت العَوراء زوجة أبي لهب تقول :
مُذَمَّمًا قلَيْنَا … ودِينَه أبَيْنَا … وأمرَه عصَيْنَا .
وظل سفهاء قريش وأطفالهم يحفظونه ويرددونه أثناء سيرهم في طرقات مكة .

ولقد علَّق النبي صلى الله عليه وسلم على ما قالته أم جميل ، وغيرها من مشركي قريش بحقه فقال صلى الله عليه وسلم : ” ألا تَعْجَبُونَ كيفَ يَصرِفُ اللهُ عَنِّي شَتْمَ قُرَيْشٍ ولَعنَهُمْ ، يَشْتِمُونَ مُذَمَّمًا ، ويَلْعَنُونَ مُذَمَّمًا وأنا مُحَمَّدٌ “.
بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم .

وقد كانت رقية رضي الله عنها ، بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجة لعُتبة بن أبي لهب ، وكانت أختها أم كلثوم رضي الله عنها ، زوجة لعُتَيبَة بن أبي لهب ( ولم يكن زواج المسلمة بكافر مُحَرَّمًا في أول الأمر ، وإنما نزل تحريم ذلك متأخرًا ) ، فقال لهما أبوهما أبو لهب وأمهما حمالة الحطب : ( فارقا ابنتي محمد ) وقال أبو لهب : ( رأسي من رأسيكما حرام إن لم تفارقا ابنتي محمد ) ، ففارقاهما .
وقد طلَّقا ابنتي النبي صلى الله عليه وسلم قبل دخولهما عليهما ، وذلك بأمرٍ من عدو الله أبي لهب ، وكان ذلك بعد نزول سورة ” المسد “.
وكان الطلاق قبل الدخول ، غيظًا لأبي لهب ؛ وإكرامًا للنبي صلى الله عليه وسلم .

وقد ورد في صحيح البخاري عن جندب بن عبدالله رضي الله عنه ، قال :
{ اشْتَكَى رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَتَيْنِ -أوْ ثَلَاثًا- ( أي مَرِض رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم فلم يَقُمْ للتَّهَجُّدِ ليلتَيْن أو ثلاثًا ).
فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ ( هي العَوْرَاءُ بنتُ حَربٍ أختُ أبي سُفْيَانَ ، وهي حَمَّالَةُ الحَطَبِ زَوْجُ أبي لَهَبٍ ).
فَقالَتْ : يا مُحَمَّدُ ، إنِّي لَأَرجُو أنْ يَكونَ شيطَانُكَ قد تَرَكَكَ ، لَمْ أرَهُ قَرِبَكَ مُنْذُ لَيْلَتَيْنِ -أوْ ثَلَاثَةٍ- فأنْزَلَ اللهُ عزَّ وجلَّ : “وَٱلضُّحَىٰ (١) وَٱلَّیۡلِ إِذَا سَجَىٰ (٢) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ (٣)” }.
ومعنى قوله عز وجل ﴿ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ ﴾ أي : ما قَطَعَك ربُّك قَطْعَ المُوَدِّع ، ﴿ وَمَا قَلَىٰ ﴾ أي : وما أَبْغَضَك .

وقد كانت عاقبة أم جميل وزوجها عاقبة وخيمة ، لحربهما ضد الإسلام ، وإيذائهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتوَعَّدهم القرآن بسوء العاقبة في جهنم وبئس المصير .
” وَٱللهُ غَالِبٌ عَلَىٰۤ أَمۡرِهِۦ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا یَعۡلَمُونَ “.

وذات مرة كان النبي صلى الله عليه وسلم يسير في طرقات مكة ، وفي أثناء سيره ، أخذ المشركون يقذفونه بالحجارة والرمال ويسبُّونه ( أي يشتمونه ) ، وبينما هم كذلك ، إذ خرج عليه رجل من قريش اسمه أُمَيَّة بن خلف الجمحي ، وهو الذي كان يُعَذِّب بِلَالًا رضي الله عنه .
وقد كان أُمَيَّة هذا يهمز ويلمز رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أي يعيبه في وجهه وفي غيبته ويستهزئ به ) فقيل أنه نزل فيه قول الله تعالى :
” وَیۡلࣱ لِّكُلِّ هُمَزَةࣲ لُّمَزَةٍ (١) ٱلَّذِی جَمَعَ مَالࣰا وَعَدَّدَهُۥ (٢) یَحۡسَبُ أَنَّ مَالَهُۥۤ أَخۡلَدَهُۥ (٣) كَلَّاۖ لَیُنۢبَذَنَّ فِی ٱلۡحُطَمَةِ (٤) وَمَاۤ أَدۡرَىٰكَ مَا ٱلۡحُطَمَةُ (٥) نَارُ ٱللهِ ٱلۡمُوقَدَةُ (٦) “.

وعن عبدالله بن مسعود رضي الله قال :

{ بيْنَما رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قَائِمٌ يُصَلِّي عِنْدَ الكَعبَةِ وجَمْعُ قُرَيْشٍ في مَجَالِسِهِمْ ، إذْ قَالَ قَائِلٌ منهمْ : ألَا تَنْظُرُونَ إلى هذا المُرَائِي ؟( يَقصِدُ النبيَّ ﷺ ، فادَّعَى الكافِرُ كَذِبًا أنَّه ﷺ يُصَلِّي عِندَ الكَعبةِ رِياءً ؛ لِيَرَى الناسُ عِبادَتَه! ) أيُّكُمْ يَقُومُ إلى جَزُورِ آلِ فُلَانٍ ، فَيَعمِدُ إلى فَرثِهَا ودَمِهَا وسَلَاهَا ، فَيَجِيءُ به ، ثُمَّ يُمْهِلُهُ حتَّى إذَا سَجَدَ وضَعَهُ بيْنَ كَتِفَيْهِ ( والفَرثُ : ما في بَطنِ الإبِلِ مِنَ القَذارةِ ، والسَّلا : هو أمعاؤُها ) ، فَانْبَعَثَ أشْقَاهُمْ ( وهو عُقبة بن أبي مُعَيْطٍ ) ، فَلَمَّا سَجَدَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وضَعَهُ بيْنَ كَتِفَيْهِ ، وثَبَتَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سَاجِدًا ، فَضَحِكُوا حتَّى مَالَ بَعْضُهُمْ إلى بَعضٍ مِنَ الضَّحِكِ ، فَانْطَلَقَ مُنْطَلِقٌ إلى فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ -وهي جُوَيْرِيَةٌ- ( أي صغيرة في السن ) ، فأقْبَلَتْ تَسعَى ، وثَبَتَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سَاجِدًا حتَّى ألْقَتْهُ عنْه ، وأَقْبَلَتْ عليهم تَسُبُّهُمْ ، فَلَمَّا قَضَى رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الصَّلَاةَ ، قَالَ :
” اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بقُرَيْشٍ ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بقُرَيْشٍ ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بقُرَيْشٍ ، ثُمَّ سَمَّى : اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بعَمْرِو بنِ هِشَامٍ ، وعُتْبَةَ بنِ رَبِيعَةَ ، وشيبَةَ بنِ رَبِيعَةَ ، والوَلِيدِ بنِ عُتْبَةَ ، وأُمَيَّةَ بنِ خَلَفٍ ، وعُقْبَةَ بنِ أبِي مُعَيْطٍ ، وعُمَارَةَ بنِ الوَلِيدِ ” .. قَالَ عبدُاللهِ : فَوَاللهِ لقَد رَأَيْتُهُمْ صَرعَى ( أي قَتلَى ) يَومَ بَدرٍ }.

ونُكمل الحديث عن بعض صور الإيذاء التي تعرَّض له نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم في الحلقة القادمة إن شاء الله .

ندعوكم لقراءة : إيذاء المشركين لرسول الله ﷺ

زر الذهاب إلى الأعلى