الشيخان المحدثان
الشيخان المحدثان :
المحدث هو من يشتغل بعلم الحديث رواية ودراية ، ويطلع على كثير من الروايات وأحوال رواتها .
ومن أبرزهم : الشيخان المحدثان وهما إمامان علمان متقنان ، جمعا أحاديث النبي العدنان ، وقد برعا في هذا الميدان ، وقد أجمعت الأمة على أن كتابيهما هما أصح الكتب بعد القرآن ، وقد اتفق الشيخان ، في اللؤلؤ والمرجان ، في أحاديثَ كثيرةٍ تؤكد الصحة والرجحان .
سلامٌ عليهما في كل زمانٍ ومكان .. سلامٌ معطرٌ بالمسك والريحان .
– المحدث الأول :
في مدينة بخارى ( إحدى مدن أوزبكستان الحالية ) وُلد بعد صلاة الجمعة في ( 13 من شوال 194هـ = 4 من أغسطس 810م ) ، وكانت بخارى آنذاك مركزًا من مراكز العلم تمتلئ بحلقات المحدِّثين والفقهاء ، واستقبل حياته في وسط أسرة كريمة ذات دين ومال ؛ فكان أبوه عالمًا محدِّثًا ، عُرِف بين الناس بحسن الخلق وسعة العلم ، وكانت أمه امرأة صالحة ، لا تقل ورعًا وصلاحًا عن أبيه .
وعالمنا الكبير ليس من أرومة عربية ، بل كان فارسيَّ الأصل ، وأول من أسلم من أجداده هو “ المغيرة بن برد زبة ” ، وكان إسلامه على يد “ اليمان الجعفي ” والي بخارى ؛ فنُسب إلى قبيلته ، وانتمى إليها بالولاء ، وأصبح “ الجعفي ” نسبًا له ولأسرته من بعده .
نشأ المحدث الكبير يتيمًا ؛ فقد تُوفِّيَ أبوه مبكرًا ، فلم يهنأ بمولوده الصغير ، لكن الأم الرءوم تعهدت وليدها بالرعاية والتعليم ، تدفعه إلى العلم وتحببه فيه ، وتزين له الطاعات ؛ فشب مستقيم النفس ، عفَّ اللسان ، كريم الخلق ، مقبلًا على الطاعة ، وما كاد يتم حفظ القرآن حتى بدأ يتردد على حلقات المحدثين .
وفي هذه السنِّ المبكرة مالت نفسه إلى الحديث ، ووجد حلاوته في قلبه ؛ فأقبل عليه محبًا ، حتى إنه ليقول عن هذه الفترة : ” أُلهمت حفظ الحديث وأنا في المكتب ( الكُتَّاب ) ، ولي عشر سنوات أو أقل ”.. كانت حافظته قوية ، وذاكرته لاقطة لا تُضيّع شيئًا مما يُسمع أو يُقرأ ، وما كاد يبلغ السادسة عشرة من عمره حتى حفظ كتب ابن المبارك ، ووكيع ، وغيرها من كتب الأئمة المحدثين .
- رحلته في طلب الحديث :
بدأت مرحلة جديدة في حياة الإمام المحدث ؛ فشدَّ الرحال إلى طلب العلم ، وخرج إلى الحج وفي صحبته أمه وأخوه حتى إذا أدوا جميعًا مناسك الحج ؛ تخلف هو لطلب الحديث والأخذ عن الشيوخ ، ورجعت أمه وأخوه إلى بخارى ، وكان عالمنا الكبير آنذاك شابًّا صغيرًا في السادسة عشرة من عمره .
آثر أن يجعل من الحرمين الشريفين طليعة لرحلاته ؛ فظل بهما ستة أعوام ينهل من شيوخهما ، ثم انطلق بعدها ينتقل بين حواضر العالم الإسلامي ؛ يجالس العلماء ويحاور المحدِّثين ، ويجمع الحديث ، ويعقد مجالس للتحديث ، ويتكبد مشاق السفر والانتقال ، ولم يترك حاضرة من حواضر العلم إلا نزل بها وروى عن شيوخها ، وربما حل بها مرات عديدة ، يغادرها ثم يعود إليها مرة أخرى ؛ فنزل في مكة والمدينة وبغداد وواسط والبصرة والكوفة ، ودمشق وقيسارية وعسقلان ، وخراسان ونيسابور ومرو ، وهراة ومصر وغيرها .
ويقول عن ترحاله : “ دخلت إلى الشام ومصر والجزيرة مرتين ، وإلى البصرة أربع مرات ، وأقمت بالحجاز ستة أعوام ، ولا أحصي كم دخلت إلى الكوفة وبغداد ”.
- شيوخ الإمام :
لم يكن غريبًا أن يزيد عدد شيوخه عن ألف شيخ من الثقات الأعلام ، ويعبر هو بنفسه عن ذلك بقوله : “ كتبت عن ألف ثقة من العلماء وزيادة ، وليس عندي حديث لا أذكر إسناده ”.. ويحدد عدد شيوخه فيقول : “ كتبت عن ألف وثمانين نفسًا ليس فيهم إلا صاحب حديث ”.
ولم يكن عالمنا الكبير يروي كل ما يأخذه أو يسمعه من الشيوخ ، بل كان يتحرى ويدقق فيما يأخذ ، ومن شيوخه المعروفين الذين روى عنهم : أحمد بن حنبل ، ويحيى بن معين ، وإسحاق بن راهويه ، وعلي بن المديني ، وقتيبة بن سعيد ، وأبو بكر بن أبي شيبة ، وأبو حاتم الرازي .
- عودته إلى وطنه :
وبعد رحلة طويلة شاقة لقي فيها الشيوخ ووضع مؤلفاته العظيمة ، رجع إلى نيسابور للإقامة بها ، لكن غِيْرَة بعض العلماء ضاقت بأن يكون محل تقدير وإجلال من الناس ؛ فسعوا به إلى والي المدينة ، ولصقوا به تهمًا مختلفة ؛ فاضطر إلى أن يغادر نيسابور إلى مسقط رأسه في بخارى ، وهناك استقبله أهلها استقبال الفاتحين ؛ فنُصبت له القباب على مشارف المدينة ، ونُثرت عليه الدراهم والدنانير .. ولم يكد يستقر ببخارى حتى طلب منه أميرها “ خالد بن أحمد الدهلي ” أن يأتي إليه ليُسمعه الحديث ؛ فقال لرسول الأمير : “ قل له إنني لا أذل العلم ولا أحمله إلى أبواب السلاطين ، فإن كانت له حاجة إلى شيء فليحضرني في مسجدي أو في داري ، فإن لم يعجبك هذا فأنت سلطان ، فامنعني من المجلس ليكون لي عذر عند الله يوم القيامة أني لا أكتم العلم! ”.
لم يعجب رد عالمنا الفذ الحاكم المغرور ، وحملته عزته الآثمة على التحريض على الإمام الجليل ، وأغرى به بعض السفهاء ليتكلموا في حقه ، ويثيروا عليه الناس ، ثم أمر بنفيه من المدينة ؛ فخرج من بخارى إلى “ خرتنك ” ، وهي من قرى سمرقند ، وظل بها حتى تُوفِّيَ فيها ، وهي الآن قرية تعرف بقرية ” خواجة صاحب “.
- من مؤلفاته :
تهيأت أسباب كثيرة لأن يكثر المحدث الكبير من التأليف ؛ فقد منحه الله ذكاءً حادًّا ، وذاكرة قوية ، وصبرًا على العلم ومثابرة في تحصيله ، ومعرفة واسعة بالحديث النبوي وأحوال رجاله من عدل وتجريح ، وخبرة تامة بالأسانيد ؛ صحيحها وفاسدها .. أضف إلى ذلك أنه بدأ التأليف مبكرًا ؛ فيذكر -رحمه الله- أنه بدأ التأليف وهو لا يزال يافع السن في الثامنة عشرة من عمره ، وقد صنَّف ما يزيد عن عشرين مصنفًا ، منها :
الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وسننه وأيامه ، المعروف بـ الجامع الصحيح .
الأدب المفرد : وطُبع في الهند والأستانة والقاهرة طبعات متعددة .
التاريخ الكبير : وهو كتاب كبير في التراجم ، رتب فيه أسماء رواة الحديث على حروف المعجم .
التاريخ الصغير : وهو تاريخ مختصر للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه ومن جاء بعدهم من الرواة إلى سنة (256هـ = 870م).
- ومن مؤلفاته أيضًا :
خلق أفعال العباد ، ورفع اليدين في الصلاة ، والكُنى ، وغير ذلك .
وله كتب مخطوطة لم تُطبع بعد ، مثل : التاريخ الأوسط ، والتفسير الكبير .
إنه العالم الجليل والشيخ الكبير : محمد بن إسماعيل البخاري .
– المحدث الثاني :
هو إمام من أكبر أئمة الحديث .
وُلد سنة 206هـ الموافق 822م والمتوفى في 25 رجب 261هـ الموافق 6 يوليو 875م .
يعتبر من أهم علماء الحديث النبوي الشريف .
- النشأة ورحلات العلم :
وُلِد إمامنا الجليل في نيسابور بإقليم خراسان ( شمال شرقي إيران حاليًا ) ، وفيها أيضًا لقي ربه .
وقد طلب العلم منذ الصغر ، وقد كان من الحُفّاظ ، وبدأ بالمعرفة والأخذ عن علماء بلاده ، قبل الترحال .
كان أبوه وأسرته من أهل العلم فحببه ذلك في أجواء الاستزادة والتلقي ، قبل أن يسافر في رحلات عديدة إلى الحجاز لأداء فريضة الحج والتلقي عن كبار العلماء ، وقد سافر إلى المدينة المنورة والبصرة وبغداد والكوفة والشام ومصر .
إذًا فقد كانت علاقته مع العلم مبكرة ، فأول رحلة له في الصبا ، جاءت في الرابعة عشرة من عمره عندما ذهب إلى الحج ، وقد وصفه الإمام النووي بأنه ” أحد الرحالين في طلب الحديث إلى أئمة الأقطار والبلدان “.
- الاستقرار بالري بعد تطوافه :
أقام المحدث الكبير في مدينة الري ، حيث مكث فيها قرابة خمسة عشر عامًا في طلب علم الحديث ، وجمع ما يزيد عن 300 ألف حديث نبوي ، وأخذ عن أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي زرعة الرازي وغيرهم من علماء عصره .
كما تتلمذ الكثيرون على يديه ، فاعترفوا له بالإمامة والعلم والإتقان في علم الحديث .
- عمله بالتجارة :
طوال حياته عاش الإمام على كسب يده ، حيث كان يعمل بمهنة التجارة في متجره ويبيع فيه سلعًا مثل البزّ أو الكتان الناعم والأقمشة والثياب ، إضافة إلى أنه كان يمتلك من الضياع والثروة الشخصية ما مكّنه من السفر والرحلات العلمية في البلدان الإسلامية .
وقد وفق بين عمله في التجارة ورحلة البحث عن الحديث النبوي ، حيث كان يطلب العلم والأحاديث وهو يتاجر في الوقت نفسه ، وكان أيضًا يحدث الناس في متجره بالعلوم والمعارف .
- مكانته وصفاته :
كسب الإمام المحدث مكانة بين أهل عصره ، وعُرف بحسن المظهر والثياب الجميلة ، وأمّ المصلين في جامع نيسابور ، كما لقب بـ ” محسن نيسابور ” لما عُرف به من الإحسان والكرم ، أيضًا كان من صفاته أنه لا يميل إلى الغيبة ولا المعاركة ولا الشتم .
- علاقته بشيخه البخاري :
ربطته علاقة وطيدة بشيخ الحديث ، الإمام محمد بن إسماعيل البخاري ، حيث كان من تلامذته ، وكان يجله ويوقره .
ولما زار البخاري نيسابور في سنة 250هـ لازمه تلميذه النجيب طوال وجوده بها ، كما وقف بجواره في محنته بعد أن طرده حاكم بخارى من المدينة .
ويشير أهل العلم إلى أن الإمام العلم أخذ طريقة شيخه البخاري في النهج والمعرفة واستفاد منه كثيرًا ؛ ورغم ذلك لم يروِ في صحيحه عن البخاري ؛ لأنه لازمه بعد إتمام صحيحه .
- مؤلفاته :
رغم أنه ألف الكثير من المصنفات إلا أن أغلبها فُقِد ، وقد ذكر ابن الجوزي 23 مصنفًا له ، لكن أشهر كتبه التي عُرِف بها ” الجامع الصحيح ” الذي بات يعتبر من أمهات كتب الحديث النبوي ، وقد انتخب فيه من أحاديث الصحيح من جملة 300 ألف حديث ، متحريًا الدقة والمنهجية .
وقد أنهى كتابه وعرضه للمراجعة من قبل عدد من العلماء .
وعن عدد الأحاديث الواردة في الكتاب ، فقد تم الاختلاف حولها بحسب التصنيف ، وهي في حدود أربعة آلاف حديث ، لكن تلميذه أحمد بن سلمة عدها 12 ألف حديث ، حيث لم يستثنِ المكرر .
وقد صنف الإمام صحيحه في مسقط رأسه بنيسابور ، وكان سبب تأليفه له ؛ تلبية طلب وإجابة سؤال ، حيث أورد ذلك في خطبة كتابه ، وكان من جملة العوامل التي دفعته إلى تصنيف الكتاب -كذلك- ما رآه من سوء صنيع بعض من نصّب نفسه مُحدّثًا وعدم تورّعهم عن نشر الأحاديث الضعيفة ، فأراد أن يقوم بهذا العمل حفظًا للدين ، ومنع الناس من الوقوع في الأخبار المنكرة والضعيفة .
وكان الإمام المحدث قد بدأ عمله وأمامه فيض من الدفاتر والأوراق التي جمع عليها الأحاديث في رحلاته وسفره ، واتبع منهج التحري والتحرّز في رواية الحديث بألفاظه تمامًا كما سمعها ، مما جعله يستغرق زمنًا طويلًا في التأليف وصل إلى قرابة خمس عشرة سنة .
وقد وصف السيوطي عمل الإمام في الصحيح بأنه تميز بالاختصار البليغ والإيجاز التام وحسن الوضع وجودة الترتيب .
وقد أُلفت العديد من الكتب في شرح صحيحه وصل عددها ما يزيد عن ستين شرحًا بالعربية وخمسة بغير العربية .
- كذلك من مؤلفات الإمام المحدث :
الكُنى والأسماء ، والتمييز ، والطبقات، وغيرها من عشرات الكتب المفقودة .
وقد تُوفي ودُفن الإمام العَلَم في نيسابور ولم يُخَلِّف ذرية من البنين حيث كانت له بنات ، وفيض من علمه الذي بقي للأجيال إلى اليوم . مات وهو سهران يُنَقِّب في الحديث ويعيش فقط على أكل التمر .
إنه الإمام العلم : مسلم بن الحجاج .
عليهما سحائب الرحمات .