الرشد في القرآن
الرشد في القرآن :
قال الله تعالى في كتابه العزيز :
” إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا “. (الكهف : 10)
- مع أهل التفسير :
اذكر «إذ أوى الفتية إلى الكهف» جمع فتى وهو الشاب الكامل ، خائفين على إيمانهم من قومهم الكفار «فقالوا ربنا آتنا من لدنك» من قِبَلك «رحمة وهيئ» أصلح «لنا من أمرنا رشدا» هداية .
( عن تفسير الجلالين ).
- وهذا تفسير آخر يقول :
اذكر -أيها الرسول- حين لجأ الشبَّان المؤمنون إلى الكهف ؛ خشية من فتنة قومهم لهم ، وإرغامهم على عبادة الأصنام ، فقالوا : ربنا أعطنا مِن عندك رحمة ، تثبتنا بها ، وتحفظنا من الشر ، ويسِّر لنا الطريق الصواب الذي يوصلنا إلى العمل الذي تحب ، فنكون راشدين غير ضالين .
( عن التفسير الميسر ).
- إذًا هو : الرشد .
مطلوبهم : الرشد ؛ أي الهداية ، ما أعظمها من بداية ، وما أكرمها من نهاية .
– المفردات :
الهيئة : هي الحالة التي يكون عليها الشيء محسوسة كانت أو معقولة .
وأصل التهيئة : إحداث هيئة الشيء ؛ أي أصلح ورتب .
الرشد : خلاف الغي ، ويُستعمل استعمال الهداية ؛ وهو إصابة للطريق الموصل إلى المطلوب ، والاهتداء إليه .
- وهذا تفسير آخر لهذه الآية الكريمة المعبرة ، نفهم من خلاله المقصود من كلمة : الرشد :
يخبر ربنا تبارك وتعالى عن أولئك الفتية الذين فرّوا بدينهم من قومهم لئلا يفتنوهم عنه ، فهربوا منهم ، فلجأوا إلى غارٍ في جبل ليختفوا عن قومهم ، فقالوا حين دخلوا سائلين اللَّه تعالى من رحمته ولطفه : ﴿رَبَّنَا آتِنَا﴾ (الآية) ، فأفادت هذه الآية أن وظيفة المؤمن التفكر في جميع آيات اللَّه التي دعا اللَّه تعالى العباد إلى التفكر فيها ، المنبثقة في ملكوت السموات والأرض ، وأن كل آية تدلّ على كمال وحدانيته جلّ وعلا ، وأن آياته لم تُخلق عبثًا ، وإنما فيها من بديع الحكم ما يستنير منها أهل الإيمان ، فيزدادون إيمانًا وهُدى ، ومفتاح إلى طريق كسب العلم والمعرفة ، واليقين إلى كسب العلم والمعرفة .
فلما فرّوا بدينهم ممن كان يطلبهم من الكافرين ، وبذلوا السبب في ذلك اشتغلوا بأهم الأسباب : التضرّع إلى اللَّه واللجوء إليه بالدعاء ، فقالوا : ﴿رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً﴾ : سألوا اللَّه تبارك وتعالى أنْ يمنَّ عليهم برحمة عظيمة ، كما أفاد التنوين في ﴿رَحْمَةً﴾ تناسب عنايته باتّباع الدين الذي أمر به ، وهو ما يشير إليه قوله تعالى : ﴿مِنْ لَدُنْكَ﴾ ، فإن ﴿مِنْ﴾ تفيد معنى الابتداء ، و﴿لَدُنْكَ﴾ : تفيد معنى العندية ، فذلك أبلغ ما لو قالوا : آتنا رحمة ؛ لأن الخلق كلهم بمحل الرحمة ، فسألوا رحمة خاصة من ربهم جلَّ وعلا تقتضي كمال العناية بهم ، وتفيض عليهم من كمال الإحسان والإنعام .
وقوله : ﴿وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا﴾ ؛ أي يسِّر لنا و سهِّل علينا الوصول إلى طريق الهداية والرشاد في الأقوال والأفعال في أمر ديننا ودنيانا .
إذًا هو الرشد ، هو الهداية ، هو السداد من رب العباد .
فقد جمعوا بين السعي والفرار من الفتنة إلى محل يمكن الاستخفاء فيه ، وبين تضرّعهم وسؤالهم اللَّه عز وجل تيسير أمورهم ، وعدم اتكالهم على أنفسهم ، وعلى الخلق ، فجعل اللَّه لهم مخرجًا ، ورزقهم من حيث لا يحتسبون ، وهي سُنّة اللَّه تعالى التي لا تتبدل مع المتقين الصادقين ، قال تعالى : ” وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ “. (الطلاق : 2-3)
– من هَدْي النبي :
وهذا السؤال من المؤمنين كان أيضًا من هدي الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في سؤاله لربه عز وجل :
” اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَهْدِيكَ لأَرْشَدِ أَمْرِي “.
( صححه الألباني ).
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم :
” وَمَا قَضَيْتَ لِي مِنْ قَضَاءٍ ، فَاجْعَلْ عَاقِبَتَهُ رَشَدًا “.
( الأدب المفرد للبخاري : 222 ).
هو الرشد يا سادة ، هو الرشد يا قادة .. اطلبوه من ربكم ، كما سأله نبيكم صلى الله عليه وسلم .
ندعوكم لقراءة : اعتزال المعصية
– فوائد عظيمة :
ولله در هذا العالم الجليل القائل :
تضمنت هذه الدعوة المباركة من الفوائد العظيمة الفوائد الآتية :
- ينبغي الفرار من الأماكن التي لا يستطيع العبد القيام بدينه فيها ، وإن ذلك من أوجب الواجبات .
- أنَّ من أوى إلى اللَّه تعالى ، أواه اللَّه تعالى ولطف به ، وجعله سببًا لهداية الضالين .
- أنّ من ترك شيئًا للَّه تعالى ؛ عَوَّضَهُ اللَّه خيرًا منه .
- أنّ من اتّقى اللَّه تعالى ؛ جعل اللَّه له مخرجًا ورزقه من حيث لا يحتسب .
- ينبغي للعبد أن يجمع بين الأسباب الدنيوية والشرعية المطلوبة .
- أنّ رحمة اللَّه تعالى نوعان : رحمة عامة لكل الخلق مؤمنهم وكافرهم ، ورحمة خاصة لعباده الصالحين التي تقتضي العناية والتوفيق والهدى والسداد .
والعبد يسأل ربه على الدوام أن يمنَّ عليه من خزائن رحمته الخاصة المكنونة . - أنّ الدّعاء ينبغي أن يستجمع معه بذل الأسباب ، فهم سألوا اللَّه تعالى ، ثمّ بذلوا الأسباب التي منها فرارهم بدينهم إلى الكهف .
- أن الجزاء من جنس العمل ، فهم حفظوا إيمانهم فحفظهم اللَّه تعالى بأبدانهم ودينهم .
- أنّ الدعاء وظيفة المؤمن في كل مهماته في حياته .
- الإكثار من دعاء اللَّه تعالى بسؤال الرحمة والرشد ؛ لأن فيهما الصلاح والفلاح في الدنيا والآخرة .
- تعظيم الرغبة في الدعاء كما أفاد سؤالهم : ﴿رَحْمَةً﴾ بالتنوين التي تدلّ على التعظيم .
- أنّ الأدعية الشرعية جمعت وحوت كلّ ما يتمنّاه العبد في دينه ودنياه .
– الرشد بصيغ متعددة :
ورد مصطلح الرشد في القرآن الكريم تسع عشرة مرة .
وقد جاء بصيغ متعددة ، وفي آيات وسور مختلفة : الرُشْد – رَشَدًا – الرَّشاد – يرشُدون – رشيد – مُرشد – الراشدون .
- ولقد ورد الرشد في مقابل الغي في موضعين ، هما :
قوله عز وجل :
” لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ “. (البقرة : 256)
وقوله تعالى :
” وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا “. (الأعراف : 146)
وفي اللغة هو أصلٌ واحدٌ يدلُّ على استقامةِ الطريق .
وهو إصابة وجه الأمر ، وهو عند بعض أهل اللغة نقيض الضلال ؛ لقوله تعالى :
” لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ “. (البقرة : 256)
فهو في اللغة يعني الاهتداء إلى أصحّ الأمور أيًا ما كانت دينيّة أو دنيويّة .
وحين أوى الفتية إلى الكهف لم يسألوا الله النصر ، ولا الظفر ، ولا التمكين ، بل سألوا الله عز وجل الرشد ؛ حيث دعوا ربهم قائلين :
” رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا “. (الكهف : 10)
– والجن كذلك :
والجن لما سمعوا القرآن أول مرة قالوا : ” إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ “.
فالرشد هو : إصابة وجه الحقيقة هو السداد وهو السير في الاتجاه الصحيح .
فإذا أرشدك الله فقد أوتيت خيرًا عظيمًا ، وهو حسنُ التصرف في الأشياء ، وسداد المسلك في علَّة ما أنت بصدده .
– موسى والخضر :
حين بلغ موسى عليه السلام إلى الرجل الصالح ” الخضر“ لم يطلب منه إلا الرشد :
” هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا “. (الكهف : 66)
– الرشد في الشعر :
قال الأفوه الأودي الشاعر الجاهلي المعروف :
قَالَ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ في مرثيته :
أمَرْتُهُمُ أَمْرِي بِمُنْعَرَجِ اللِّوَى … فلَمْ يَسْتَبِينُوا الرُّشْدَ إلا ضُحَى الغَدِ
فلمَّا عَصَوْني كنْتُ منهُمْ وقد أرَى … غِوَايَتَهُمْ وأنَّني غيرُ مُهتَدِ
ومَا أنَا إلا من غَزِيَّةَ إنْ غوَتْ … غوَيْتُ وإنْ تَرشُدْ غزَّيَةُ أَرْشُدِ