الحج عرفة
الحج عرفة :
قال الله تبارك وتعالى : ” وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱلله غَنِيٌّ عَنِ ٱلْعَـٰلَمِينَ “. (آل عمران : 97)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” الحج عرفة “. (أخرجه أحمد)
هذا الحديث موجود في جُلِّ كتب السنة ، فقد أخرجه الإمام أحمد في مسنده ، وأبو داود في سننه ، والترمذي في جامعه الصحيح ، والنسائي في المُجتبى ، وابن ماجه في السنن ، وابن حبان في صحيحه ، والحاكم في مستدركه ، وغيرهم كثير .
وهذا الحديث مما أوتيه النبي صلى الله عليه وسلم من جوامع الكلم ، حيث أوجز الحج بـ « عرفة ».
قال أبو عيسى الترمذي في جامعه الصحيح : والعمل على حديث عبد الرحمن بن يعمر عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم ، أنه من لم يقف بعرفات قبل طلوع الفجر ، فقد فاته الحج ولا يجزئ عنه إن جاء بعد طلوع الفجر ، ويجعلها عمرة وعليه الحج من قابل ، وهو قول الثوري ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق .
قال أبو عيسى : وقد روى شعبة عن بكير بن عطاء نحو حديث الثوري ، قال : وسمعت الجارود ، يقول : سمعت وكيعًا أنه ذكر هذا الحديث ، فقال : هذا الحديث أم المناسك .
وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام : تقديره : إدراك الحج وقوف عرفة .
وقال الملا علي القاري المكي : أي ملاك الحج ومعظم أركانه : وقوف عرفة ؛ لأنه يفوت بفواته .
وقال الشنقيطي في أضواء البيان : والحاصل أن الوقوف بعرفة ركن من أركان الحج إجماعًا ، وأن من جمع بين الليل والنهار من بعد الزوال فوقوفه تام إجماعًا ، وإن اقتصر على الليل دون النهار فوقوفه تام ، لحديث « فقد أدرك الحج ».
– مشعر عرفة :
جاء في لسان العرب لابن منظور :
وعرفة وعرفات : موضع بمكة معرفة ، كأنهم جعلوا كل موضع منها عرفة ، ويوم عرفة غير منون ولا يُقال : العرفة ، ولا تدخله الألف واللام ، قال سيبويه : عرفات مصروفة في كتاب الله تعالى وهي معرفة ، والدليل على ذلك قول العرب : هذه عرفات مباركًا فيها ، وهذه عرفات حسنة ، قال : ويدلك على معرفتها أنك لا تدخل فيها ألفًا ولامًا . (انتهى)
وتسمى عرفات : المشعر الحلال ، والمشعر الأقصى ، ويقال للجبل الذي في وسطها : جبل الرحمة ، ويُسمى : إلال ، على وزن هلال ، والنابت ؛ لأنه كالنبتة في وسط الأرض المستوية ، والقرين أي تصغير القرن .
وقريش في الجاهلية كانوا لا يقفون بعرفة ، وإنما المشعر الحرام في مزدلفة ويفيضون منه ، والناس يقفون بعرفة .
يقول أهل قريش : نحن أهل الله في بلدته وقطان بيته ، فيقفون في طرف الحرم عند أدنى الحل ، فأنزل الله تعالى قوله :
” ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ “. (البقرة : 199)
– سبب التسمية :
قال ياقوت الحموي : { يقال : سُميت بذلك ؛ لأن آدم وحواء تعارفا بها بعد نزولهما من الجنة ، ويقال : إن الناس يعترفون بذنوبهم في ذلك الموقف }.
وساق أقوالًا أخرى .
قال تعالى في سورة البقرة :
” وَقُلْنَا يَآءَادَمُ ٱسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلْظَّـٰلِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيْطَـٰنُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا ٱهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَـٰعٌ إِلَىٰ حِينٍ * فَتَلَقَّىٰ ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَـٰتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ * قُلْنَا ٱهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَٱلَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَـٰتِنَآ أُولَـٰئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ “. (البقرة : 35-39)
– حدود عرفة :
وردت نصوص في تحديد مشعر عرفة والتي منها :
ما رواه ابن ماجه بسنده عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
” كل عرفة موقف وارتفعوا عن بطن عرنة “.
وقال الماوردي : وحد عرفة ما جاوز وادي عرفة الذي فيه المسجد ، وليس المسجد ولا وادي عرفة من عرفة إلى الجبال المقابلة على عرفة كلها ، فيقف منها عند الجبال الثلاثة النبعة والنبيعة والتائب .
– إلى عرفات الله :
لله در أمير الشعراء أحمد شوقي القائل :
إِلى عَرَفاتِ اللَهِ يا خَيرَ زائِرٍ
عَلَيكَ سَلامُ اللهِ في عَرَفاتِ
وَيَومَ تُوَلّى وُجهَةَ البَيتِ ناضِرًا
وَسيمَ مَجالي البِشرِ وَالقَسَماتِ
عَلى كُلِّ أُفقٍ بِالحِجازِ مَلائِكٌ
تَزُفُّ تَحايا اللهِ وَالبَرَكاتِ
إِذا حُدِيَت عيسُ المُلوكِ فَإِنَّهُمْ
لِعيسِكَ في البَيداءِ خَيرُ حُداةِ
لَدى البابِ جِبريلُ الأَمينُ بِراحِهِ
رَسائِلُ رَحمانِيَّةُ النَفَحاتِ
وَفي الكَعبَةِ الغَرّاءِ رُكنٌ مُرَحِّبٌ
بِكَعبَةِ قُصّادٍ وَرُكنِ عُفاةِ
وَما سَكَبَ الميزابُ ماءً وَإِنَّما
أَفاضَ عَلَيكَ الأَجرَ وَالرَحَماتِ
وَزَمزَمُ تَجري بَينَ عَينَيكَ أَعيُنًا
مِنَ الكَوثَرِ المَعسولِ مُنفَجِراتِ
وَيَرمونَ إِبليسَ الرَجيمَ فَيَصطَلي
وَشانيكَ نيرانًا مِنَ الجَمَراتِ
يُحَيّيكَ طَهَ في مَضاجِعِ طُهرِهِ
وَيَعلَمُ ما عالَجتَ مِن عَقَباتِ
وَيُثني عَلَيكَ الراشِدونَ بِصالِحٍ
وَرُبَّ ثَناءٍ مِن لِسانِ رُفاتِ
لَكَ الدينُ يا رَبَّ الحَجيجِ جَمَعتَهُمْ
لِبَيتٍ طَهورِ الساحِ وَالعَرَصاتِ
أَرى الناسَ أَصنافًا وَمِن كُلِّ بُقعَةٍ
إِلَيكَ انتَهَوا مِن غُربَةٍ وَشَتاتِ
تَساوَوا فَلا الأَنسابُ فيها تَفاوُتٌ
لَدَيكَ وَلا الأَقدارُ مُختَلِفاتِ
عَنَت لَكَ في التُربِ المُقَدَّسِ جَبهَةٌ
يَدينُ لَها العاتي مِنَ الجَبَهاتِ
مُنَوِّرَةٌ كَالبَدرِ شَمّاءُ كَالسُها
وَتُخفَضُ في حَقٍّ وَعِندَ صَلاةِ
وَيا رَبِّ لَو سَخَّرتَ ناقَةَ صالِحٍ
لِعَبدِكَ ما كانَت مِنَ السَلِساتِ
وَيا رَبِّ هَل سَيّارَةٌ أَو مَطارَةٌ
فَيَدنو بَعيدُ البيدِ وَالفَلَواتِ
وَيا رَبِّ هَل تُغني عَنِ العَبدِ حَجَّةٌ
وَفي العُمرِ ما فيهِ مِنَ الهَفَواتِ
وَتَشهَدُ ما آذَيتُ نَفسًا وَلَم أَضِر
وَلَم أَبغِ في جَهري وَلا خَطَراتي
وَلا غَلَبَتني شِقوَةٌ أَو سَعادَةٌ
عَلى حِكمَةٍ آتَيتَني وَأَناةِ
وَلا جالَ إِلّا الخَيرُ بَينَ سَرائِري
لَدى سُدَّةٍ خَيرِيَّةِ الرَغَباتِ
وَلا بِتُّ إِلّا كَابنِ مَريَمَ مُشفِقًا
عَلى حُسَّدي مُستَغفِرًا لِعِداتي
وَلا حُمِّلَت نَفسٌ هَوىً لِبِلادِها
كَنَفسِيَ في فِعلي وَفي نَفَثاتي
وَإِنّي وَلا مَنٌّ عَلَيكَ بِطاعَةٍ
أُجِلُّ وَأُغلي في الفُروضِ زَكاتي
أُبلَغُ فيها وَهيَ عَدلٌ وَرَحمَةٌ
وَيَترُكُها النُسّاكُ في الخَلَواتِ
وَأَنتَ وَلِيُّ العَفوِ فَامحُ بِناصِعٍ
مِنَ الصَفحِ ما سَوَّدتُ مِن صَفَحاتي
وَمَن تَضحَكِ الدُنيا إِلَيهِ فَيَغتَرِر
يَمُت كَقَتيلِ الغيدِ بِالبَسَماتِ
وَرَكِبَ كَإِقبالِ الزَمانِ مُحَجَّلٍ
كَريمِ الحَواشي كابِرِ الخُطُواتِ
يَسيرُ بِأَرضٍ أَخرَجَت خَيرَ أُمَّةٍ
وَتَحتَ سَماءِ الوَحيِ وَالسُوَراتِ
يُفيضُ عَلَيها اليُمنَ في غَدَواتِهِ
وَيُضفي عَلَيها الأَمنَ في الرَوَحاتِ
إِذا زُرتَ يا مَولايَ قَبرَ مُحَمَّدٍ
وَقَبَّلتَ مَثوى الأَعظَمِ العَطِراتِ
وَفاضَت مَعَ الدَمعِ العُيونُ مَهابَةً
لِأَحمَدَ بَينَ السِترِ وَالحُجُراتِ
وَأَشرَقَ نورٌ تَحتَ كُلِّ ثَنِيَّةٍ
وَضاعَ أَريجٌ تَحتَ كُلِّ حَصاةِ
لِمُظهِرِ دينِ اللهِ فَوقَ تَنوفَةٍ
وَباني صُروحِ المَجدِ فَوقَ فَلاةِ
فَقُل لِرَسولِ اللَهِ يا خَيرَ مُرسَلٍ
أَبُثُّكَ ما تَدري مِنَ الحَسَراتِ
شُعوبُكَ في شَرقِ البِلادِ وَغَربِها
كَأَصحابِ كَهفٍ في عَميقِ سُباتِ
بِأَيمانِهِمْ نورانِ ذِكرٌ وَسُنَّةٌ
فَما بالُهُمْ في حالِكِ الظُلُماتِ
وَذَلِكَ ماضي مَجدِهِمْ وَفَخارِهِمْ
فَما ضَرَّهُمْ لَو يَعمَلونَ لِآتي
وَهَذا زَمانٌ أَرضُهُ وَسَماؤُهُ
مَجالٌ لِمِقدامٍ كَبيرِ حَياةِ
مَشى فيهِ قَومٌ في السَماءِ وَأَنشَؤوا
بَوارِجَ في الأَبراجِ مُمتَنِعاتِ
فَقُل رَبِّ وَفِّق لِلعَظائِمِ أُمَّتي
وَزَيِّن لَها الأَفعالَ وَالعَزَماتِ