الأيام خزائن للناس
الأيام خزائن للناس :
على طرفي نقيض يوم القيامة : ناس يجدون في خزائنهم العز والكرامة ، بينما يجد آخرون الخزي والندامة .
نسأل ربنا السلامة ، والدخول في دار المقامة .
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في [ لطائف المعارف ] :
{ الأيام خزائن للناس ممتلئة بما خزنوه فيها من خير وشر ، وفي يوم القيامة تُفتَح هذه الخزائن لأهلها ، فالمتقون يجدون في خزائنهم العز والكرامة ، والمذنبون يجدون في خزائنهم الحسرة والندامة }.
إذًا الخزائن ملأى بالخير والشر ، وسنقابل ربنا العظيم ﷻ بما قدمناه في حياتنا الدنيا ؛ ليجزي الله الصادقين بصدقهم ، ويعذب المكذبين بكذبهم وافترائهم على الله .
فهل رجلٌ مثل قارون تنفعه خزائنه الملأى بالأموال الطائلة ، بينما خزائن أيامه كلها فارغة من الحسنات ؟!
- العز والكرامة للمتقين :
الأيام خزائن للناس ، وخزائن المتقين ملأى بكل خير ، وقد شهد لهم ربهم في قرآن يُتلَى إلي يوم القيامة بقوله عز من قائل :
« وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ». (آل عمران : 133-136)
يقول الإمام السعدي رحمه الله :
{ ثم أمرهم تعالى بالمسارعة إلى مغفرته وإدراك جنته التي عرضها السماوات والأرض ، فكيف بطولها ، التي أعدها الله للمتقين ، فهم أهلها وأعمال التقوى هي الموصلة إليها ، ثم وصف المتقين وأعمالهم ، فقال : ( الذين ينفقون في السراء والضراء ) ؛ أي : في حال عسرهم ويسرهم ، إن أيسروا أكثروا من النفقة ، وإن أعسروا لم يحتقروا من المعروف شيئًا ولو قل .
( والكاظمين الغيظ ) ؛ أي : إذا حصل لهم من غيرهم أذية توجب غيظهم -وهو امتلاء قلوبهم من الحنق ، الموجب للانتقام بالقول والفعل- ، هؤلاء لا يعملون بمقتضى الطباع البشرية ، بل يكظمون ما في القلوب من الغيظ ، ويصبرون عن مقابلة المسيء إليهم .
( والعافين عن الناس ) يدخل في العفو عن الناس ، العفو عن كل من أساء إليك بقول أو فعل ، والعفو أبلغ من الكظم ؛ لأن العفو ترك المؤاخذة مع السماحة عن المسيء ، وهذا إنما يكون ممن تحلى بالأخلاق الجميلة ، وتخلى عن الأخلاق الرذيلة ، وممن تاجر مع الله ، وعفا عن عباد الله رحمة بهم ، وإحسانا إليهم ، وكراهة لحصول الشر عليهم ، وليعفو الله عنه ، ويكون أجره على ربه الكريم ، لا على العبد الفقير ، كما قال تعالى : فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ .
ثم ذكر حالة أعم من غيرها ، وأحسن وأعلى وأجل ، وهي الإحسان ، فقال تعالى : ( والله يحب المحسنين ) ؛ والإحسان نوعان : الإحسان في عبادة الخالق ، والإحسان إلى المخلوق ، فالإحسان في عبادة الخالق ؛ فسرها النبي ﷺ بقوله : أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك .
وأما الإحسان إلى المخلوق ، فهو إيصال النفع الديني والدنيوي إليهم ، ودفع الشر الديني والدنيوي عنهم ، فيدخل في ذلك أمرهم بالمعروف ، ونهيهم عن المنكر ، وتعليم جاهلهم ، ووعظ غافلهم ، والنصيحة لعامتهم وخاصتهم ، والسعي في جمع كلمتهم ، وإيصال الصدقات والنفقات الواجبة والمستحبة إليهم ، على اختلاف أحوالهم وتباين أوصافهم ، فيدخل في ذلك بذل الندى وكف الأذى ، واحتمال الأذى ، كما وصف الله به المتقين في هذه الآيات ، فمن قام بهذه الأمور ، فقد قام بحق الله وحق عبيده.
ثم ذكر اعتذارهم لربهم من جناياتهم وذنوبهم ، فقال : ( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ) ؛ أي : صدر منهم أعمال سيئة كبيرة ، أو ما دون ذلك ، بادروا إلى التوبة والاستغفار ، وذكروا ربهم ، وما توعد به العاصين ووعد به المتقين ، فسألوه المغفرة لذنوبهم ، والستر لعيوبهم ، مع إقلاعهم عنها وندمهم عليها ، فلهذا قال : ( ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ).
( أولئك ) الموصوفون بتلك الصفات ( جزاؤهم مغفرة من ربهم ) تزيل عنهم كل محذور ( وجنات تجري من تحتها الأنهار ) فيها من النعيم المقيم ، والبهجة والسرور والبهاء ، والخير والسرور ، والقصور والمنازل الأنيقة العاليات ، والأشجار المثمرة البهية ، والأنهار الجاريات في تلك المساكن الطيبات ، ( خالدين فيها ) لا يحولون عنها ، ولا يبغون بها بدلًا ولا يغير ما هم فيه من النعيم ، ( ونعم أجر العاملين ) عملوا لله قليلًا فأجروا كثيرًا ، فـ «عند الصباح يحمد القوم السرى» وعند الجزاء يجد العامل أجره كاملًا موفرا .
وهذه الآيات الكريمات من أدلة أهل السنة والجماعة ، على أن الأعمال تدخل في الإيمان ، خلافًا للمرجئة ، ووجه الدلالة إنما يتم بذكر الآية ، التي في سورة الحديد ، نظير هذه الآيات ، وهي قوله تعالى : « سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ » ، فلم يذكر فيها إلا لفظ الإيمان به وبرسله ، وهنا قال : ( أعدت للمتقين ) ثم وصف المتقين بهذه الأعمال المالية والبدنية ، فدل على أن هؤلاء المتقين الموصوفين بهذه الصفات هم أولئك المؤمنون }.
- الحسرة والندامة للظالمين :
يقول الله الملك الحق في كتابه العزيز :
« وَيَوْمَ يَعَضُّ ٱلظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يٰلَيْتَنِي ٱتَّخَذْتُ مَعَ ٱلرَّسُولِ سَبِيلًا * يَـٰوَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ ٱلذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَآءَنِي وَكَانَ ٱلشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولًا ». (الفرقان : 27-29)
وما ذكره الله ﷻ في هذه الآيات جاء موضحًا في غيرها .
فقوله عز من قائل : ( وَيَوْمَ يَعَضُّ ٱلظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ ) كناية عن شدة الندم والحسرة ؛ لأن النادم ندمًا شديدًا ، يعض على يديه ، وندم الكافر يوم القيامة وحسرته الذي دلت عليه هذه الآية ، جاء موضحًا في آيات أخر ، كقوله تعالى في سورة يونس :
« وَأَسَرُّواْ ٱلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِٱلْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ». (يونس : 54)
وقوله تعالى في سورة سبأ :
« وَأَسَرُّواْ ٱلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱْلَعَذَابَ وَجَعَلْنَا ٱلأَغْلاَلَ فِيۤ أَعْنَاقِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ». (سبأ : 33)
وقوله تعالى :
« قَالُواْ يٰحَسْرَتَنَا عَلَىٰ مَا فَرَّطْنَا فِيهَا ». (الأنعام : 31)
والحسرة أشد من الندامة ، وقوله تعالى :
« كَذَلِكَ يُرِيهِمُ ٱللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ ٱلنَّارِ ». (البقرة : 167)
إلى غير ذلك من الآيات الواضحات البينات التي تؤكد حسرتهم وندامتهم .
اللهم بيِّض وجوهنا يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ، وثقِّل موازين حسناتنا ؛ إنك أنت الجواد الكريم .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .