الأعمال بالنيات
عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم يقول : « إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ». (رواه إماما المحدثين : أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخاري ، وأبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري في صحيحيهما اللذين هما أصح الكتب المصنفة)
– ثلث الإسلام :
قال الشافعي رحمه الله تعالى : يدخل هذا الحديث في سبعين بابًا من الفقه .
وقال جماعة من العلماء : هذا الحديث ثلث الإسلام .
– شرح الحديث :
«إنما الأعمال بالنيات» والمراد بالأعمال : الأعمال الشرعية .
ومعناه : لا يعتد بالأعمال بدون النية مثل الوضوء والغسل والتيمم وكذلك الصلاة والزكاة والصوم والحج والاعتكاف وسائر العبادات ، فأما إزالة النجاسة فلا تحتاج إلى نية ؛ لأنها من باب الترك والترك لا يحتاج إلى نية ، وذهب جماعة إلى صحة الوضوء والغسل بغير نية .
وقوله : «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله» المتقرر عند أهل العربية : أن الشرط والجزاء والمبتدأ والخبر لا بد أن يتغايرا ، وهنا قد وقع الاتحاد وجوابه «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله» نية وقصدًا «فهجرته إلى الله ورسوله» حكمًا وشرعًا .
– مهاجر أم قيس :
وهذا الحديث ورد على سبب ؛ لأنهم نقلوا : أن رجلًا هاجر من مكة إلى المدينة ليتزوج امرأة يقال لها : أم قيس ، لا يريد بذلك فضيلة الهجرة ، فكان يُقال له : مهاجر أم قيس. والله أعلم ورسوله صلى الله عليه وسلم .
– النية عند تلاوة القرآن الكريم :
أرسل إليّ أحدهم بهذه الرسالة المعبرة ، يقول فيها :
س : ماذا تنوي عند قراءة القرآن ؟
ج : الأجر والثواب .
وأنا ها هنا أزيدك من الشعر أبياتًا ؛ فأقول لك أخي الكريم قارئ القرآن :
كلّما قرأت القرآن بنيّة نلت فضلها كما قال النّبي ﷺ : « إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى » الحديث .
فالقرآن منهج حياة ، والنية تجارة العلماء ، فمن هذا المبدأ أُذَكِّر نفسي وإخواني بأن تكون نية المسلم عند القراءة :
- أقرأُ القرآنَ لأجل العلم والعمل به .
- أقرأ القرآن بقصد الهداية من الله .
- أقرأ القرآن بقصد مناجاة الله تعالى .
- أقرأ القرآن بقصد الاستشفاء به من الأمراض الظاهرة والباطنة .
- أقرأ القرآن بقصد أن يخرجني الله من الظلمات إلى النور .
- أقرأ القرآن ؛ لأنه علاج لقسوة القلب ، وفيه طمأنينة القلب ، وحياة القلب ، وعمارة القلب .
- أقرأ القرآن بنية أن القرآن مأدبة الله تعالى .
- أقرأ القرآن حتى لا أُكتَب من الغافلين ، بل أكون من الذاكرين .
- أقرأ القرآن بقصد زيادة اليقين والإيمان بالله .
- أقرأ القرآن بقصد الامتثال لأمر الله تعالى بالترتيل .
- أقرأ القرآن للثواب حتى يكون لى بكل حرف عشر حسنات ، والله يضاعف لمن يشاء .
- أقرأ القرآن حتى أنال شفاعة القرآن الكريم يوم القيامة .
- أقرأ القرآن بقصد اتباع وصية النبى ﷺ .
- أقرأ القرآن حتى يرفعني الله به ويرفع به الأمة .
- أقرأ القرآن حتى أرتقي في درجات الجنة ، وألبس تاج الوقار ، ويُكسى والداي حلتين لا تقوم لهما الدنيا .
- أقرأ القرآن بقصد التقرب إلى الله بكلامه .
- أقرأ القرآن حتى أكون من أهل الله وخاصته .
- أقرأ القرآن بقصد أن الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة .
- أقرأ القرآن بقصد النجاة من النار .
- أقرأ القرآن حتى أكون في معية الله تعالى .
- أقرأ القرآن حتى لا أُرَدّ إلى أرذل العمر .
- أقرأ القرآن حتى يكون حجة لي لا علىّ .
- أقرأ القرآن بقصد أن النظر في المصحف عبادة .
- أقرأ القرآن حتى تنزل عليّ السكينة وتغشاني الرحمة ، ويذكرني الله فيمن عنده .
- أقرأ القرآن بقصد الحصول على الخيرية والفضل عند الله .
- أقرأ القرآن حتى يكون ريحي طيبًا .
- أقرأ القرآن حتى لا أضل في الدنيا ولا أشقى في الآخرة .
- أقرأ القرآن ؛ لأن الله يجلي به الأحزان ، ويُذهب به الهموم والغموم .
- أقرأ القرآن ؛ ليكون أنيسي في قبري ، ونورًا لي على الصراط ، وهاديًا لي في الدنيا ، وقائدًا لي إلى الجنة .
- أقرأ القرآن ؛ ليربيني الله ويؤدبني بالأخلاق التي تحلى بها الرسول ﷺ .
- أقرأ القرآن ؛ لأشغل نفسي بالحق حتى لا تشغلني بالباطل .
- أقرأ القرآن لمجاهدة النفس والشيطان والهوى .
- أقرأ القرآن ليجعل الله بيني وبين الكافرين حجابًا مستورًا يوم القيامة .
هيا .. هيا ؛ لنكون من أهل القرآن ، الذين هم أهل الله وخاصته .
هذه هي التجارة المضمونة الرابحة مع الملك جل في علاه ، والتي يعطي الله عليها من فضله الكريم وعطائه الذي لا ينفد .
ندعوكم لقراءة : النية في الإسلام
– أنت مُكَلَّف بالسير لا بالوصول :
- قصة ضمرة بن جندب رضي الله عنه :
بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة إلى يثرب ، لم يتبق في مكة إلا عدد قليل من المسلمين لم يهاجروا لمرضهم وكبر سنهم ، وكان من بين هؤلاء الصحابة الذين حبسهم المرض وكبر السن الصحابي الجليل : ضمرة بن جندب رضي الله عنه .
لم يستطع أن يتحمل مشقة السفر وحرارة الصحراء ؛ فظل في مكة مُرغمًا ، ولكنه لم يتحمل البقاء بين ظهراني المشركين ، فقرر أن يتحامل على نفسه ويتجاهل مرضه وسنه .
وبالفعل خرج ضمرة بن جندب رضي الله عنه ، وتوجه إلى يثرب ، وأثناء سيره في الطريق اشتد عليه المرض ، فأدرك أنه الموت ، وأنه لن يستطيع الوصول ، فوقف ، وضرب كفًّا على كفٍّ ، وقال وهو يضرب الكف الأولى :
اللهم هذه بيعتي لك ..
ثم قال وهو يضرب الثانية :
وهذه بيعتي لنبيك ..
ثم سقط ميتًا .
فنزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم يخبره بما حدث لضمرة ، ثم نزل قول الله تعالى :
” ﻭَﻣَﻦ ﻳَﺨْﺮُﺝْ ﻣِﻦ ﺑَﻴْﺘِﻪِ ﻣُﻬَﺎﺟِﺮًﺍ ﺇِﻟَﻰ ﺍﻟﻠّﻪِ ﻭَﺭَﺳُﻮﻟِﻪِ ﺛُﻢَّ ﻳُﺪْﺭِﻛْﻪُ ﺍﻟْﻤَﻮْﺕُ ﻓَﻘَﺪْ ﻭَﻗَﻊَ ﺃَﺟْﺮُﻩُ ﻋَﻠﻰ ﺍﻟﻠّﻪِ ﻭَﻛَﺎﻥَ ﺍﻟﻠّﻪُ ﻏَﻔُﻮﺭًﺍ ﺭَّﺣِﻴﻤًﺎ ”. (النساء : 100)
فجمع النبي أصحابه وأخبرهم بشأن ضمرة ، وقال حديثه الشهير ، الذي هو الحديث الأول في صحيح البخاري : «إنما الأعمال بالنيات» الحديث .
فحاز ضمرة شَرَفًا لم يحزه غيره بأن نزل فيه قرآن وسُنَّة ، رغم كونه لم يصل إلى المدينة .
الطريق الى الله طويل ، لا يشترط أن تصل إلى آخره ، المهم أن تموت وأنت فيه .
العمل مع الله لا يشترط فيه أن تصل إلى الهدف ، ولكن يكفيك أن تموت وأنت تعمل وتسير في الطريق إليه مادامت نيتك لله .
والنية محلها القلب .
– النية الذكية :
قال عبدالله بن المبارك رحمه الله : ” كم من عملٍ قليل عَظَّمته النية ، وكم من عملٍ عظيم حَقَّرته النية “.
النية أمرها عظيم ، فهي عبادة قلبية لا يتلفظ بها المرء ، وعلى حسب النية تكون الفوارق في الأعمال بين العباد .
مثلًا :
• شخص توضأ للصلاة بنية الوضوء للصلاة فقط .
• شخص آخر توضأ للصلاة بنية الوضوء للصلاة ، والامتثال لأمر الله جل في علاه .
• وشخص آخر توضأ للصلاة بنية الوضوء للصلاة ، وامتثال لأمر اللّه عز وجل ، وتطبيق سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوضوء .
• وشخص رابع توضأ للصلاة بنية الوضوء للصلاة ، والامتثال لأمر الله ، وتطبيق سنة الرسول في الوضوء ، وتكفير الذنوب بالوضوء .
كل الأشخاص الأربعة توضؤوا الوضوء نفسه ، وجميعهم وضوؤهم صحيح ، ولكن التفاوت بالدرجات بين كل شخص وآخر يكون بنيته واستشعار قلبه للعبادة .
قال تعالى : ” يَرْفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ دَرَجَاتٍ “. (المجادلة : 11)
أحد أسباب رفعة أهل العلم ؛ لأنهم يعلمون كيف يحصدون أكبر الأجور .
جددوا نياتكم واستشعروا بقلوبكم عند عبادتكم لمالك الملك ، وأحسنوا نياتكم ؛ تُضاعف أجوركم .
« إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لك امرئ ما نوى » الحديث .
– عظيم أمر النية :
ومن عظيم أمر النيّة أنه قد يبلغ العبد منازل الأبرار ، ويكتب له ثواب أعمال عظيمة لم يعملها ، وذلك بالنيّة ، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لما رجع من غزوة تبوك : ” إن بالمدينة أقوامًا ما سرتم مسيرًا ، ولا قطعتم واديًا ، إلا كانوا معكم ” ، قالوا يا رسول الله : وهم بالمدينة ؟ قال : ” وهم بالمدينة ، حبسهم العذر “. (رواه البخاري)
– تعظيم النيات :
إنّ تعظيم النيات واستحضارها ، وتكثيرها وتعدادها ، هي تجارة قلوب الصالحين ، من الصحابة رضي الله عنهم ، والتابعين لهم بإحسان ، والعلماء الربانيين ، فإنهم كانوا يعملون العمل الواحد ، ولهم فيه نياتٌ كثيرة ، يحصل لهم بها أجورٌ عظيمة على كل نيّة .
فعندما تتعدد النيات على العمل الواحد ، والطاعة الواحدة ، يتضاعف الأجر ، وتكثر المثوبة ، فتكسب أجرًا على كل نيةٍ تنويها ، وحسنة على كل مقصد من المقاصد ، على العمل الواحد الذي تؤديه مرة واحدة .
ولذا قال يحيى ابن أبي كثير رحمه الله تعالى : ” تعلموا النيَّة ، فإنِّها أبلغُ من العمل ”.
فلا ينبغي الغفلة عن هذا الباب المهم والمفيد ، والتشاغل عن تعلّمه وتعليمه .
اللهم أصلح نياتنا يا رب العالمين .