الأب : حُبٌّ وطب
الأب : حُبٌّ وطب :
الأب حبيب ، ولطلبات أولاده مجيب ، وهو منهم قريب ، منفقٌ ومعلمٌ وطبيب .
هناك مَثَل ياباني يقول : { طيبة الأب أعلى من القمم ، وطيبة الأم أعمق من المحيطات }.
مهما تعددت ينابيع الحب والفرح في الحياة ، سيظلّ نبع الوالدين هو الأرقى والأنقى ، فما من إنسانٍ يستحق الطاعة والتوقير أكثر منهما .
وصلتني هذه الرسالة من أحد الزملاء ، وجزاه الله خير الجزاء ، يقول فيها على استحياء :
حتى عمر 5 سنوات ، أبي هو الأفضل .
إلي عمر 6 سنوات : أبي يعرف كل الناس .
وإلي عمر 10 سنوات : أبي ممتاز ولكن خلقه ضيق .
وإلي عمر 12 سنة : أبي كان لطيفًا عندما كنت صغيرًا .
وإلي عمر 14 سنة : أبي أصبح حسَّاسًا جدًّا .
وإلي عمر 16 سنة : أبي لا يمكن أن يتماشى مع العصر الحالي .
وإلي عمر 18 سنة : أبي ومع مرور كل يوم يبدو كأنه أكثر حدة .
وإلي عمر 20 سنة : من الصعب جدًّا أن أسامح أبي ، وأستغرب كيف استطاعت أمي أن تتحمله ؟!
وإلي عمر 25 سنة : أبي يعترض على كل شيء .
وإلي عمر 30 سنة : من الصعب جدًّا أن أتفق مع أبي ، هل يا ترى ده بسبب إن جدي كان بيعامل أبي كده عندما كان في مثل سني ؟!
وإلي عمر 35 سنة : أبي رباني في هذه الحياة مع كثير من الضوابط ، ولابد أن أفعل الشيء نفسه مع أبنائي .
وإلي عمر 40 سنة : أنا محتار ، كيف استطاع أبي أن يربينا جميعًا ؟!
وإلي عمر 45 سنة : من الصعب التحكم في أطفالي ، كم تكبد أبي من عناء لأجل أن يربينا ويحافظ علينا ويصبر ويتحمل !!
وإلي عمر 50 سنة : أبي كان ذا نظرة بعيدة وخطَّط لعدة أشياء لنا ، أبي كان مميزًا ، ولا يوجد مثله ، وهو الأفضل !!!!
جميع ما سبق احتاج إلى 50 عامًا لإنهاء الدورة كاملة ليعود إلى نقطة البدء الأولى عند الـ 5 سنوات : ” أبي هو الأفضل “.
( فمن كان والده حيًّا ، فليحسن إليه قبل فوات الأوان ، ومن كان والده متوفيًا ، فليدعُ الله تعالى أن يغفر له ويرحمه ).
- آباء رحماء :
نوح عليه السلام كأب ، كيف تعامل مع ابنه الكافر ، وكيف دعاه برفق ولين أن يركب معه السفينة ، ورفض الابن العاق ؛ فكان من المغرقين .
ثم دعا ربه بقوله : إن ابني من أهلي ، ولكن الله العليم الخبير أخبره أنه ليس من أهله ؛ إنه عملٌ غير صالح ؛ فاستجاب نوح عليه السلام لأمر ربه عز وجل .
والخليل إبراهيم عليه السلام كأب ، وتعامله مع أمر سيده ومولاه ﷻ ، في مسألة ذبح ولده ، وكيف دعا ولده برفق قائلًا له :
« … يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ». (الصافات : 102)
قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى : { وإنما أعلم ابنه بذلك ليكون أهون عليه ، وليختبر صبره وجلده وعزمه من صغره على طاعة الله تعالى وطاعة أبيه }.
- مع حبيبكم المعلم ﷺ :
قال النووي رحمه الله تعالى :
{ كان للنبي ﷺ ثلاثة بنين : القاسم وبه كان يُكَّنَّى ، وُلِدَ قبل النبوة ، وتُوفِي وهو ابن سنتين ، وعبدالله وسُمِّي الطيب والطاهر ؛ لأنه وُلِدَ بعد النبوة ، وإبراهيم وُلِد بالمدينة سنة ثمان ، ومات بها سنة عشر وهو ابن سبعة عشر شهرًا أو ثمانية عشر .
وكان له أربع بنات : زينب تزوجها أبو العاص بن الربيع وهو ابن خالتها هالة بنت خويلد ، وفاطمة تزوجها علي بن أبى طالب رضي الله عنه ، ورقية وأم كلثوم تزوجهما عثمان بن عفان رضي الله عنه ، تزوج رقية ثم أم كلثوم وتوفيتا عنده ؛ ولهذا سُمِّي ذو النّورين ، تُوفيَت رقية يوم بدر في رمضان سنة اثنتين من الهجرة ، وتوفيت أم كلثوم في شعبان سنة تسع من الهجرة }.
ماذا ننتظر من رجل وصفه الله تعالى بأنه رحمة للعالمين ، وبأنه بالمؤمنين رؤوف رحيم ، إلا أن يكون نموذجًا كاملًا في تعامله لبناته وأحفاده ، بل ولكل أولاد المسلمين .
فقد كان صلى الله عليه وسلم يفرح لولادة كل مولود جديد في بيوته خاصة ، وفي بيوت المسلمين عامة .
فإذا وُلِد مولود أَذَّن النبي صلى الله عليه وسلم في أذنه اليمنى وأقام له في أذنه اليُسرى ؛ ليكون أول ما يسمعه المولود في الدنيا كلمة الله ، ثم يحنّكه بحلو التمر ، ويسميه بخير الأسماء وأحسنها .
كان صلى الله عليه وسلم يعامل الصغار بكل رحمة وعطف وحنان ، يقبّلهم ويمسح على رؤوسهم ويحملهم بين يديه .
فقد حمل حفيدته أمامة بنت زينب وهو يصلي رحمة بها حتى تكفّ عن بكائها .
ومن ذلك ذهابه إلى بيت فاطمة رضي الله عنها ؛ ليلقى ابنه الحسن بن علي رضي الله عنهما ، فوقف في فناء البيت ونادى : ” أَثَمَّ لُكَعْ ، أَثَمَّ لُكَعْ “ .. حتى خرج له الحسن وهو صبي يسعى ، فالتزمه وقبَّله ، وهو يقول : ” اللهمَّ إني أُحِبُّهُ ، فأَحِبَّهُ ، وأَحِبَّ مَن يُحبُّهُ “.
(متفق عليه)
ولما قبّل النبي صلى الله عليه وسلم حفيده الحسن بن علي رضي الله عنهما ، تعجب الأقرع بن حابس من ذلك وقال : لي عشرة أولاد ما قبّلت واحدًا منهم ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ” من لا يَرحم لا يُرحم ”.
ويروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يداعب الحسن والحسين فيأخذ بكفّي أحدهما ويجعله يرقى بقدميه على صدره الشريف ثم يقبّله .
- إدخال السرور على قلوب بناته :
ويجمع ذلك كلَّه حديث صحيح :
عن عَائِشَة أُمِّ الْمُؤْمِنِيِنَ رضي الله عنها قَالَتْ : إِنَّا كُنَّا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَهُ جَمِيعًا لَمْ تُغَادَرْ مِنَّا وَاحِدَةٌ ، فَأَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلَام تَمْشِي ، لَا وَاللَّهِ مَا تَخْفَى مِشْيَتُهَا مِنْ مِشْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلَمَّا رَآهَا رَحَّبَ قَالَ : ( مَرْحَبًا بِابْنَتِي ) ثُمَّ أَجْلَسَهَا عَنْ يَمِينِهِ ، أَوْ عَنْ شِمَالِهِ ، ثُمَّ سَارَّهَا ، فَبَكَتْ بُكَاءً شَدِيدًا ، فَلَمَّا رَأَى حُزْنَهَا : سَارَّهَا الثَّانِيَةَ ، فَإِذَا هِيَ تَضْحَكُ ، فَقُلْتُ لَهَا أَنَا مِنْ بَيْنِ نِسَائِهِ : خَصَّكِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسِّرِّ مِنْ بَيْنِنَا ، ثُمَّ أَنْتِ تَبْكِينَ ، فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلْتُهَا عَمَّا سَارَّكِ ، قَالَتْ : مَا كُنْتُ لِأُفْشِيَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِرَّهُ ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ قُلْتُ لَهَا : عَزَمْتُ عَلَيْكِ بِمَا لِي عَلَيْكِ مِنْ الْحَقِّ لَمَّا أَخْبَرْتِنِي قَالَتْ : أَمَّا الْآنَ فَنَعَمْ .
فَأَخْبَرَتْنِي قَالَتْ : أَمَّا حِينَ سَارَّنِي فِي الْأَمْرِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ أَخْبَرَنِي أَنَّ ( جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُهُ بِالْقُرْآنِ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً وَإِنَّهُ قَدْ عَارَضَنِي بِهِ الْعَامَ مَرَّتَيْنِ وَلَا أَرَى الْأَجَلَ إِلَّا قَدْ اقْتَرَبَ فَاتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي فَإِنِّي نِعْمَ السَّلَفُ أَنَا لَكِ ) ، قَالَتْ : فَبَكَيْتُ بُكَائِي الَّذِي رَأَيْتِ ، فَلَمَّا رَأَى جَزَعِي سَارَّنِي الثَّانِيَةَ ، قَالَ : ( يَا فَاطِمَةُ أَلَا تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ ، أَوْ سَيِّدَةَ نِسَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ ). (رواه البخاري : 5928 ، ومسلم : 2450)
ندعو الله جل في علاه ، أن يعاملنا أولادنا أفضل مما كنا نعامل والدينا .
قال الله تعالى :« وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ». (الإسراء : 23-24)