إسلام حمزة بن عبد المطلب
إسلام حمزة بن عبد المطلب :
( ٤٠ ) الحلقة الأربعون من سيرة الحبيب ﷺ :
نبدأ حديثنا بالصلاة والسلام على نبي الهدى ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين .
بعد أن هاجر المسلمون إلى الحبشة في العام الخامس من البعثة ، بدأ الوضع يزداد صعوبة في مكة ، حيث ظلَّت قريش على عنادها واستكبارها ، بل وازداد المشركون تغيُّظًا بسبب نجاح المسلمين في هجرتهم للمرة الثانية رغمًا عن أنف مشركي قريش ، لذلك فقد تمادى المشركون في غيِّهم وضلالهم وتنكيلهم بالمستضعفين من المؤمنين الذين لم يتمكنوا من الهجرة .
وفى خِضَم تلك الأوضاع العصيبة ، والابتلاءات العظيمة لأهل الإيمان ، منَّ الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم ، وعلى المؤمنين بإسلام بطلين وفارسين من أشجع وأقوى فرسان مكة ، وهما : حمزة بن عبد المطلب ، وعُمر بن الخطاب رضي الله عنهما ، وذلك في السنة السادسة من البعثة .
وقد كان إسلام حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه ( عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ) ، ثم إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعده بأيام معدودة ، حدث ضخم ، وكانت قصة إسلامهما غاية في العجب ، تظهر فيها بوضوح معاني الآية الكريمة : ” إِنَّكَ لَا تَهۡدِی مَنۡ أَحۡبَبۡتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللهَ یَهۡدِی مَن یَشَاۤءُۚ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُهۡتَدِینَ “.
لقد أسلم كِلَا البطلين في أحوال لا يتوقع أحد من المسلمين أن يدخل الإيمان في قلب أيٍّ منهما .
- إسلام حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه ، عم رسول الله صلى الله عليه وسلم :
كان حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه قرشيًا هاشميًا شريفًا ، وكان فارس قريش ، وكان من أكثر الناس عِزَّة ومَنَعة ، وأقواهم بأسًا وشَكيمَة .
وذات يوم ، خرج حمزة رضي الله عنه إلى الصيد كعادته ، وفي نفس هذا اليوم مر أبو جهل برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو عند جبل الصفا ، فما كان من أبي جهل إلا أن تطاول على رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبَّه سبًّا شديدًا ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب الخلق العظيم لم يكلمه ولم يرد عليه سبابه ” وَإِذَا خَاطَبَهُمُ ٱلۡجَـٰهِلُونَ قَالُوا۟ سَلَـٰمًا “.
ثم انصرف بعدها أبو جهل -لعنه الله- إلى نادي قريش عند الكعبة ، فجلس معهم مفاخرًا يحكي لأصحابه ما فعله برسول الله صلى الله عليه وسلم .
وفي هذه الأثناء كانت هناك مولاة ( أي خادمة ) لعبدالله بن جُدعان في مسكن لها ، وكانت قد سمعت سباب أبي جهل للنبي صلى الله عليه وسلم .
ثم لم يلبث حمزة بن عبدالمطلب رضي الله عنه أن أقبل متوشحًا قوسه ( الذي يصطاد به ) راجعًا من القنص ( أي الصيد ) ، وكان إذا رجع من قنصه لم يَصل إلى أهله حتى يطوف بالكعبة ، وكان إذا فعل ذلك لم يمر على ناد من قريش إلا وقف وسلم وتحدث معهم ، وكان أعز فتى في قريش .
فلما مر بالمولاة التي سمعت سباب أبي جهل للنبي صلى الله عليه وسلم ، قالت له : يا أبا عُمارة ( وهي كُنية سيدنا حمزة رضي الله عنه ) ، لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد آنفًا ( أي منذ وقت قليل ) من أبي الحكم بن هشام ( وهو أبو جهل )!!
وجده هاهنا ، فآذاه وشتمه ، وبلغ ما يكره ، ثم انصرف عنه فعمد إلى نادي قريش عند الكعبة ، فجلس معهم ولم يكلم محمدًا .
ولم يتحمل حمزة رضي الله عنه ما سمعه من الجارية بشأن إيذاء أبي جهل لابن اخيه ( النبي عليه الصلاة والسلام ) ، فغضب رضي الله عنه لذلك غضبًا شديدًا ، وتحركت في نفسه مشاعر الحب للنبي صلى الله عليه وسلم ، ولأبيه عبدالله الذي مات وتركه صلى الله عليه وسلم يتيمًا ، وأيضًا مشاعر القبلية الهاشمية الشريفة ، وكذلك مشاعر الغيظ والغضب من زعيم بني مخزوم ، وأيضًا مشاعر النخوة تجاه نصرة المظلوم .
فخرج يسعى ، مُعِدًّا لأبي جهل إذا لقيه أن يُوقِع به ؛ فلما دخل المسجد نظر إليه جالسًا في القوم ، فأقبل نحوه ، حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها فشجَّه شجَّةً مُنكَرَة ( أي جرحه جرحًا بليغًا في رأسه أو وجهه ) حتى سال الدم من رأسه ، ثم قال له : أتشتُمُه وأنا على دينه أقولُ ما يقولُ ؟ فَرُدَّ ذلك عليَّ إن استطعتَ .
( وفي ذلك الوقت لم يكن حمزة رضي الله عنه أسلم بعد ، ولكنه تلفظ بهذا نصرة للحبيب صلى الله عليه وسلم ).
وكانت الإهانة غاية في الشدة لأبي جهل ؛ حيث كانت هذه الضربة أمام أفراد قبيلته وعشيرته ، بينما كان الذي حدث مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيدًا عن أعين الناس .
فقامت رجال من بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل ؛ فقال أبو جهل : دعوا أبا عُمَارة ، فإني والله قد سببتُ ابنَ أخيه سبًّا قبيحًا .
لكن ، ما الذي حدث من حمزة ؟!
أبهذه السهولة يدخل في دين الإسلام ؟! سنوات ست كان يسمع حمزة عن الإسلام ، سنوات ست لم تنقل حمزة من حال الكفر إلى حال الإيمان ، بينما نقله هذا الحادث !
ندعوكم لقراءة : إسلام الفاروق رضي الله عنه 1
- صدق النفس وتحقيق الإيمان :
بعد كلام حمزة رضي الله عنه لأبي جهل ، وكرجل صادق مع نفسه ومع مجتمعه ، لم يستطع أن يرجع في كلمته ، وفي الوقت ذاته لم يستطع أن يدخل في دعوة لا يؤمن بها حقًّا ، فعاد حمزة رضي الله عنه إلى بيته وهو في صراع حميم مع نفسه ، ماذا أفعل ؟ ولمن ألجأ ؟!
فأتاه الشيطان ، فقال : أنتَ سيد قريش ، اتَّبعتَ هذا الصابئ وتركتَ دين آبائك ، لَلموت خيرٌ لك مما صنعتَ !
ولأن فطرته سوية وسليمة لجأ إلى الله تعالى ، فقد كان العرب في جاهليتهم يؤمنون بالله ، وأنه خالق ورازق وقوي وقادر ، يؤمنون بذلك كله لكنهم كانوا لا يُحَكِّمونه في أمورهم ، ويشركون به بعبادتهم الأصنام يتقربون بها إليه ، فلجأ حمزة إلى الله تعالى بما يشبه صلاة الاستخارة قائلًا : ” اللهم إن كان رُشدًا فاجعل تصديقه في قلبي ، وإلا فاجعل لي مما وقعتُ فيه مخرجًا “.
فبات بليلة لم يَبِت بمثلها من وسوسة الشيطان .
ولأن الله تعالى يريد به خيرًا هداه لأن يذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعرض عليه أمره وما أهمَّه .
فلما أصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : ابن أخي ، إني وقعت في أمر لا أعرف المخرج منه ، لا أدري ما هو أرُشدٌ هو أم غيّ شديد ، فحدِّثني حديثًا فقد استشهيت يا ابن أخي أن تُحدِّثني .
وهنا أقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكَّره ووعظه وخوَّفه وبشَّره ، وحدَّثه بما كان يُحَدِّثه به من قبل ، وسمع حمزة رضي الله عنه الكلمات التي طالما كان يسمعها كثيرًا ، لكن في هذه المرة انشرح صدره ، وألقى اللهُ في نفسه الإيمان ، وإنها للحظة هداية يختارها الله تعالى بحكمة بالغة .
ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبيقين صادق من قلبه : ” أشهد إنك لصادق شهادة المصدق والمعارف ، فأظهِر يا ابن أخي دينك ، فوالله ما أحب أن لي ما ألمعت الشمس وإني على ديني الأول “.
وسبحان الله ! هكذا وفي لحظة واحدة أصبحت الدنيا كل الدنيا لا تُساوِي شيئًا في مقابل دينه الجديد الإسلام ، ومن بعدها أصبح حمزة رضي الله عنه أسد الله .
انتقل بعدها حمزة رضي الله عنه من كونه رجلًا مغمورًا في صحراء الجزيرة العربية إلى رجل قد أصبح كل همه أن يدافع عن دين الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن يُظهر الإسلام ويحمي المستضعفين ، ولننظر كيف ترقّى في القدر من كونه سيدًا لمجموعة من الرجال في قرية صغيرة ، إلى كونه سيِّدًا للشهداء في الجنة ، وذلك في فترة من عمر الدنيا لم تتجاوز سنوات معدودات ، فقد أصبح حمزة رضي الله عنه سيدًا لكل الشهداء على مر التاريخ وإلى يوم القيامة ، وقد خُلِّد ذكره في الدنيا وخُلِّد ذكره في الآخرة .
- إسلام حمزة وسنن الله :
يظن البعض أن حمزة قد أسلم مصادفة ، لكن الحقيقة أن إسلامه ليس بالمصادفة ، إنما هي سُنَّة من سُنَن الله تعالى ، فالظلم الشديد إذا تفاقم أمره وطال ليله أعقبه نصر من الله تعالى ، ولا شك أن إيمان حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه كان نصرًا للدعوة ، وعرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عزَّ وامتنع ، وأن حمزة سيمنعه ( أي سيحميه ) ، فكَفُّوا عن بعض ما كانوا ينالون منه .
وإذا لم يكن هذا الظلم الذي وقع شديدًا ، ما لفت نظر حمزة ، وما استطاع أن يحرك أشياء كثيرة جدًّا ما تحركت منذ سنوات ست ، فهو تدبير رب العالمين ، الذي يخلق من وسط الظلم عدلاً ونورًا ، ومن وسط الاضطهاد والقهر والبطش نصرًا وتمكينًا ، ولو كان أبو جهل يعلم أن مثل هذا سيحدث ما فكَّر ولو مرة واحدة في سب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لكنه تدبير رب العالمين { وَیَمۡكُرُونَ وَیَمۡكُرُ ٱللَّهُۖ وَٱللهُ خَیۡرُ ٱلۡمَـٰكِرِینَ }.
فهي رسالة إلى كل الدُّعاة : لا تُحبَطُوا من الظلم الشديد ، فلعله الظلم الذي يسبق نصرًا عظيمًا للدعوة ، ولعلها أحلك لحظات الليل سوادًا التي يأتي بعدها ضياء الفجر ، فحين يتفاقم الظلم ما يلبث أن يُولَد النصر للإسلام والمسلمين .
هذا هو الإسلام الذي صنع حمزة ، وصنع أيضًا أبا بكر وعمر وعثمان وعَلِيًّا وغيرهم على مر التاريخ .
إذا كنا حقًّا نحتاج إلى رجال مثل حمزة فيجب علينا أن نأخذ الإسلام كما أخذه ، ويجب أن نعيش الإسلام كما عاشه حمزة رضي الله عنه ، وعاشه كذلك كل الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين .
وعن إسلام عمر بن الخطاب نتحدث في الحلقة القادمة إن شاء الله .
وخير ختام هو الصلاة والسلام على خير الأنام وآله وصحبه الكرام .