تواضع الكبار
تواضع الكبار :
نقرأ ونسمع كثيرًا عن تواضع الخلفاء والصحابة والتابعين والعلماء على مر الزمان ، في كل مكان ، خصوصًا الذين أخذوا عن النبي العدنان ، النبي المتواضع الإنسان ﷺ .
وإليكم طرفًا من نوادرهم وروائعهم رحمهم الله جميعًا :
** أبوبكر يحلب للحي !!
كان أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- يحلب للحي أغنامهم ، فلما بُويعَ له بالخلافة ، قالت جارية من الحي : الآن لا يحلب لنا أغنامنا ، فسمِعها أبو بكر ، فقال : بلى لأحلبنَّها لكم ، وإني لأرجو ألَّا يُغيِّرني ما دخلت فيه عن خلق كنتُ عليه ، فكان يحلب لهم .
** عمر والعمياء :
قال أبو صالح الغفاري : كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يتعهَّد امرأةً عمياء في المدينة بالليل ، فيقوم بأمرها ، فكان إذا جاءها وجد غيره قد سبقه إليها ، ففعل ما أرادت ، فرصده عمر ، فإذا هو أبو بكر ، كان يأتيها ويقضي أشغالها سرًّا وهو خليفة .
** تواضع ابن عوف :
وقال سعد بن الحسن التميمي : كان عبدالرحمن بن عوف -رضي الله عنه- لا يُعرَف من بين عبيده ؛ يعني من التواضع في الزي .
** مع الإمام مالك :
روى ابن عبد البر عن الإمام مالك أنه قال : لما حجَّ أبو جعفر المنصور دعاني فدخلتُ عليه فحدثته ، وسألني فأجبته فقال :
{ إني قد عزمت أن آمر بكتبك هذه التي وضعتها -يعني الموطأ- فينسخ نسخًا ثم أبعث إلى كل مصر ( قُطر أو بلد ) من أمصار المسلمين منها نسخة ، وآمرهم أن يعملوا بما فيها لا يتعدون إلى غيره ، ويدعون ما سوى ذلك من هذا العلم المحدَث ؛ فإني رأيتُ أصل العلم رواية أهل المدينة وعلمهم .
قال : فقلت : يا أمير المؤمنين ، لا تفعل ؛ فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل ، وسمعوا أحاديث ، ورووا روايات ، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم ، وعملوا به ودانوا به ، من اختلاف الناس : أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم ، وإن ردهم عما اعتقدوه شديد ، فدع الناس وما هم عليه ، وما اختار كل أهل بلد لأنفسهم } .. فقال : لعمري لو طاوعتني على ذلك لأمرتُ به .
قال الراوي بعد نهاية القصة : { وهذا غاية في الإنصاف لمن فهم }.
ورُويَ أيضًا عن عبد الرحمن بن القاسم أنه قال لمالك : ما أعلم أحدًا أعلمَ بالبيوع من أهل مصر .
فقال له مالك : وبم ذلك ؟
قال : بك .
فقال : أنا لا أعرف البيوع فكيف يعرفونها بي ؟!
** يصلح السراج :
قال رجاء بن حيوة : سمرت عند عمر بن عبد العزيز ذات ليلة فعشي ( ضعف ) السراج ، فقلت : ألا أنبه هذا الغلام يصلحه ؟
فقال : لا ، دعه ينام ، فقلت : أفلا أقوم أصلحه ؟
فقال : لا ، ليس من مروءة الرجل استخدام ضيفه ، ثم قام بنفسه فأصلحه وصبَّ فيه زيتًا ، ثم جاء ، وقال : { قمتُ وأنا عمر بن عبد العزيز ، وجئتُ وأنا عمر بن عبد العزيز }.
** فخرُ الرازي وتلميذه :
قالَ إسماعيل الغنوي ، وكانَ عالمًا بالأنساب :
جاءَ فخرُ الدين الرازي إلى مرو ، وكانَ من جلالِ القدر ، وعِظمِ الذِّكر ، وضخامةِ الهيبة ، بحيث لا يُراجع في كلامه ، ولا يتنفس أحدٌ بين يديه !
وكنتُ أترددُ للقراءةِ عليه ، والأخذِ عنه ، فقالَ لي مرةً : أريدُ أن تُصنِّفَ لي كتابًا لطيفًا في الأنساب ؛ لأحفظه .
ففعلتُ وجئته به ، فنزلَ عن كرسيه ، وجلسَ على الحصيرِ حيث يجلسُ تلامذته ، وأمرني أن أجلسَ على الكرسي !
فأبيتُ ذلك ، فنهرني وقال : اِجلسْ حيثُ أمرتُكَ !
فجلستُ ، وأخذَ يقرأُ في الكتاب ، ويسألُني عنه ، وأنا أُجيبه ، فلمَّا انتهى قالَ لي : الآن اِجلِسْ حيثُ شئتَ ، أما قبل هذا فأنتَ أستاذي وأنا تلميذك ، وليس من الأدبِ إلا أن تجلسَ على الكرسي وأجلسُ بين يديك على الحصير !
يا لتوقير المعلم ، ما أجمله في هذه القصة !
فخرُ الدين الرازي الذي ملأَ الدُنيا علمًا في زمانه ، وجدَ أن تلميذًا من تلامذته أعلم منه بالأنساب ، فطلبَ منه كتابًا فيه ، ولما صارَ الكتابُ بين يديه ، أجلسَ تلميذه على كرسيه ، وجلسَ هو على الحصير ، يتواضعُ لمن يأخذُ عنه شيئًا وهو بالأساس أحد تلامذته !
** كتاب سيبويه :
كانَ سيبويه في كتابه [ الكتاب ] الذي أسماهُ النُحاةُ قرآن النحو ، إذا عرضَ قول أُستاذه الخليل في المسألة ، وأرادَ أن يُخالفه ، يخجلُ أن يذكرَ اسمه تأدبًا مع معلمه ، فيقول : قالَ الخليلُ كذا .
** الفراهيدي وتلميذه :
تروي العرب في أخبارها أن رجلًا أحضر ابنه إلى عالم اللغة الشهير الخليل بن أحمد الفراهيدي ليعلمه ، فقال الخليل للفتى : امدح هذه النخلة .
قال الفتى : هي حلو مجتناها ، باسق منتهاها ، ناظر أعلاها .
فقال الخليل : ذمها .
قال : هي صعبة المرتقى ، بعيدة المرتجى ، محفوفة بالأذى .
فقال الخليل : يا بني ، نحن إلى التعلم منك أحوج !!
** التواضع لغة واصطلاحًا :
في اللغة : وَضَع فلانٌ نفسَه وَضعًا ، ووُضوعًا بالضَّمِّ ، وضَعةً ، بالفَتحِ : أي : أذلَّها .. وتواضَع الرَّجُلُ : إذا تذلَّل ، وقيل : ذلَّ وتخاشَعَ .
وفي الاصطلاح يعني : { تَركُ التَّرؤُّسِ ، وإظهارُ الخُمولِ ، وكراهيةُ التَّعظيمِ والزَّيادةُ في الإكرامِ ، وأن يتجنَّبَ الإنسانُ المباهاةَ بما فيه من الفضائلِ ، والمفاخرةَ بالجاهِ والمالِ ، وأن يتحرَّزَ من الإعجابِ والكِبرِ } ، والخمول يأتي بمعنى الخفاء .