سيرة الحبيب ﷺ

وفاة خديجة رضي الله عنها

وفاة خديجة رضي الله عنها :

( ٥١ ) الحلقة الحادية والخمسون من سيرة الحبيب ﷺ :

نبدأ حديثنا بالصلاة والسلام على نبي الهدى .

اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين .

وفاة سيدة نساء العالمين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها .

تكلمنا في الحلقة الماضية عن وفاة أبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذي جعله الله ناصرًا ومعينًا للنبي صلى الله عليه وسلم منذ بداية دعوته ، رغم كونه كافرًا .. وكان ذلك قبل الهجرة بثلاث سنين .

والموت بصفةٍ عامَّةٍ مصيبةٌ كما سمَّاه الله عزَّ وجلَّ في كتابه ؛ قال تعالى : ” فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ المَوْتِ “.

ولقد كان موت أبي طالب من أكبر المصائب التي تعرَّض لها رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وَلَمَّا هَلَكَ أَبُو طَالِبٍ ، نَالَتْ قُرَيْشٌ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْأَذَى مَا لَمْ تَكُنْ تَطمَعُ بِهِ فِي حَيَاةِ أَبِي طَالِبٍ .

ولكن قد تبع موت أبي طالب ، عم النبي صلى الله عليه وسلم ، مصيبة أشد منها ، ألا وهي مصيبة موت زوجه الوفيَّة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها .

توفيت خديجة رضي الله عنها وعمرها خمس وستون سنة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذاك في الخمسين من عمره .

ولئن كان أبو طالب هو السند الاجتماعي والسياسي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنَّ خديجة رضي الله عنها كانت بلا شكٍّ السند العاطفي والقلبي ؛ بل والمالي له أيضًا .

ولقد قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم مادحًا :
” آمَنَت بي إذْ كَفَرَ بي النَّاسُ ، وصَدَّقتْني إذْ كَذَّبني النَّاسُ ، وَواستْني بمالِها إذْ حَرَمَني النَّاسُ ، ورَزَقني اللهُ عزَّ وجلَّ وَلَدَها إذْ حَرَمَني أولادَ النِّساءِ “.

وعَظُم مُصاب النبي صلى الله عليه وسلم بموت هذين السندين الكبيرين .. ومما جعل المصيبة أعظم قرب موتهما من بعضهما البعض .

ولقد اختلف المؤرخون في المدة بين وفاة أبي طالب ووفاة السيدة خديجة رضي الله عنها لأنَّ المصيبتين حدثتا في وقتٍ قريبٍ جدًّا من بعضهما البعض ، فقيل لم يكن بينهما سوى ثلاثة أيام .

ولقد اشتهر عند الناس إطلاق اسم ” عام الحزن ” على العام الذي توفيت فيه خديجة رضي الله عنها ، وأبو طالب ، وذلك لما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من الحزن والهمّ بموتهما ، ولِما تعرض له من أذى السفهاء ، لأن زوجته رضي الله عنها ، وعمه كانا يدفعان عنه الكثير من الأذى والضر .

لكن لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أو أحدًا من أصحابه رضي الله عنهم ، بل ولا من التابعين ، ومتقدمي الأئمة أنه سمى هذا العام بعام الحزن ؛ ولم يُروَ ذلك مسندًا من وجه ، وغاية ما في الأمر أنها تسمية من العلماء .

  • مكانة خديجة رضي الله عنها وفضائلها :

لم تكن خديجة رضي الله عنها مجرَّد زوجة للرسول صلى الله عليه وسلم ، أو أُمًّا لأولاده ؛ إنَّما كانت وزيرَ صِدقٍ بحقٍّ ، وكانت المستشار الأمين ، وكانت الرأي الحكيم ، إنَّها كانت وكانت ! هكذا ذكرت عائشة رضي الله عنها وهي تصف كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خديجة رضي الله عنها !

فعن عائشة رضي الله عنها ، قالت :
( ما غِرتُ علَى أحَدٍ مِن نِسَاءِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ، ما غِرتُ علَى خَدِيجَةَ ، وما رَأَيْتُهَا ، ولَكِنْ كانَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُكْثِرُ ذِكْرَهَا ، ورُبَّما ذَبَحَ الشَّاةَ ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أعضَاءً ، ثُمَّ يَبعَثُهَا في صَدَائِقِ خَدِيجَةَ ، فَرُبَّما قُلتُ له : كَأنَّهُ لَمْ يَكُنْ في الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إلَّا خَدِيجَةُ ، فيَقولُ : « إنَّهَا كَانَتْ ، وكَانَتْ ، وكانَ لي منها ولَدٌ »).

ونحن نعلم يقينًا أنَّ أفضل مُتَع الدنيا هي المرأة الصالحة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الدُّنْيَا مَتَاعٌ ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا المَرْأَةُ الصَّالِحَةُ ».

ولم تكن خديجة رضي الله عنها مجرَّد امرأة صالحة ؛ إنَّما كانت من الصالحات المعدودات في تاريخ الإنسانيَّة كلها !
قال عنها النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم :
« حسبُكَ مِن نساءِ العالَمينَ مَريمُ بِنتُ عِمرانَ ، وخَديجةُ بِنتُ خُوَيْلدٍ ، وفاطمةُ بِنتُ محمَّدٍ ، وآسيةُ امرأةُ فِرعَونَ ».

ولقد خَطَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذات يوم فِي الأَرضِ أَربَعَةَ خُطُوطٍ ، قَالَ : « تَدرُونَ مَا هَذَا ؟ » ، فَقَالُوا : اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : « أَفْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ الجَنَّةِ : خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ ، وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ ، وَمَريَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ ».

وها هو أكرم الناس يعود إليها وقد سَخِر منه سفيه ، أو تعدَّى عليه كافر ، وكانت تسمعهم وهم يَصِفُونه ، صلى الله عليه وسلم ، بالجنون والكذب وهو أعقل البشر وأصدق الخلق صلى الله عليه وسلم ، وكان يعود إليها وقد نثر أحدهم التراب في وجهه أو شُجَّ رأسه ، فلا تملك عندها إلَّا العبرات ، وسمعت غير مرَّة عن محاولات قتله ، فباتت الليالي وَجِلَة ، لا تدري من أين تأتي المصيبة ، وشهدت موت ولديها الذكور القاسم وعبدالله ، وسمعت الكفار يَشْمَتون في أبيهما صلى الله عليه وسلم ويُلَقِّبونه بالأبتر ، ثُمَّ ختمت حياتها بثلاث سنواتٍ كاملةٍ محاصَرةً في الشِّعب مع زوجها وأهله ، ترتفع أصوات أطفالها من الجوع ، ولا تملك لهم شيئًا ، ونسيت في هذه السنوات أيَّام غناها وثروتها ؛ فقد ذهب المال كلُّه خدمةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورعايةً للإسلام وأهله ، ويوم ماتت لم يرث رسول الله صلى الله عليه وسلم منها شيئًا ؛ فقد أنفقت مالها كلَّه في سبيل الله !

شاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كلَّ ذلك من خديجة ؛ لذلك كان من المُحال أن ينساها ، وكان من المُحال كذلك أن يُقَدِّم عليها أحدًا .

ولقد كان حبها رزق كريم من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم .

فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت :
( ما غِرتُ علَى نِسَاءِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ، إلَّا علَى خَدِيجَةَ وإنِّي لَمْ أُدرِكْهَا .. قالَتْ : وَكانَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذَا ذَبَحَ الشَّاةَ ، فيَقولُ : « أَرسِلُوا بهَا إلى أَصدِقَاءِ خَدِيجَةَ » .. قالَتْ : فأغْضَبْتُهُ يَوْمًا ، فَقُلتُ : خَدِيجَةَ ، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ : « إنِّي قد رُزِقْتُ حُبَّهَا »).

رضي الله عنها وأرضاها .

وتروي لنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها موقفًا آخر فتقول :
( جَاءَتْ عَجُوزٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : « مَنْ أَنْتِ؟ » ، قَالَتْ : أَنَا جَثَّامَةُ الْمُزَنِيَّةُ .. قَالَ : « بَلْ أَنْتِ حَسَّانَةُ الْمُزَنِيَّةُ كَيْفَ أَنْتُمْ ؟ كَيْفَ حَالُكُمْ ؟ كَيْفَ كُنْتُمْ بَعدَنَا ؟ » ، قَالَتْ : بِخَيْرٍ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ .. قَالَتْ : فَلَمَّا خَرَجَتْ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، تُقْبِلُ عَلَى هَذِهِ الْعَجُوزِ هَذَا الإِقْبَالَ ؟ قَالَ : « إِنَّهَا كَانَتْ تَأْتِينَا زَمَنَ خَدِيجَةَ ، وَإِنَّ حُسْنَ الْعَهْدِ مِنَ الإِيمَانِ »).

وإنَّ كثرة هذه الروايات والمواقف الدالَّة على أنَّ الموقف كان يتكرَّر كثيرًا ، وهذا ذكرته عائشة رضي الله عنها تصريحًا حين وصفت حال رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولها : « كَانَ يُكْثِرُ ذِكْرَ خَدِيجَةَ » رضي الله عنها .
وكان ذلك بعد موتها ، فكيف كان في حياتها ؟! ثم كيف يمكن أن تكون لحظة فراقها ؟!
هذه المرأة بهذا القدر والقيمة فارقت الحياة ، وفي هذا الوقت الصعب ، والظروف المعقَّدة ، فأيُّ مصيبةٍ وقعت بموتها !

لا شكَّ أنَّ درجة الحزن التي شعر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة خديجة رضي الله عنها لا نستطيع أن نصفها ، ولعلَّ الشيء الوحيد الذي كان يُثلج صدره ويُصبِّره على مصيبته ، أنَّه يعلم يقينًا أنَّها من أهل الجنَّة ، وأنَّه عمَّا قليل ستنتهي الحياة ، وسيكون اللقاء هناك ، فهذا ما بَشَّره به جبريل عليه السلام قبل ذلك !

فعن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال :
« أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ ، أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ ، فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلَامَ مِنْ رَبِّهَا ، وَمِنِّي ، وَبَشِّرهَا بِبَيْتٍ فِي الجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ ، لَا صَخَبَ فِيهِ ، وَلَا نَصَبَ ».
والقصب : هو اللؤلؤ المجوف .
والصخب : هو الصياح ، والمنازعة برفع الصوت .
والنصب : هو التعب .

وقال بعض أهل العلم أن مناسبة نفي هاتين الصفتين -أعني المنازعة والتعب- أنه صلى الله عليه وسلم لما دعا إلى الإسلام أجابت خديجة طوعًا فلم تحوجه إلى رفع صوت ولا منازعة ولا تعب في ذلك ، بل أزالت عنه كل نصب ، وآنسته من كل وحشة ، وهونت عليه كل عسير ، فناسب أن يكون منزلها الذي بشرها به ربها بالصفة المناسبة لفعلها .

ألا هنيئًا لخديجة بنت خويلد رضا الله تعالى ورضا رسوله صلى الله عليه وسلم .

فلنتخذ أمَّنا خديجة رضي الله عنها أسوة لنا في أخلاقها ، ودينها ، وثباتها ، ومؤازرتها لزوجها صلى الله عليه وسلم في كل أموره ، وفي صبرها على أقدار الله في السراء والضراء ، عسى الله أن يجمعنا بها في جنات الخلد .

وفي الحلقة القادمة بإذن الله تعالى نعرف كيف سارت الأمور بعد وفاة خديجة رضي الله عنها .

ونختم بخير ختام وهو الصلاة والسلام على نبينا الأمين وآله وصحبه الكرام .

ندعوكم لقراءة : مقدمة سيرة الحبيب ﷺ

زر الذهاب إلى الأعلى