حصار المسلمين في شعب أبي طالب 1
حصار المسلمين في شعب أبي طالب 1 :
( ٤٧ ) الحلقة السابعة والأربعون من سيرة الحبيب ﷺ :
فلنُصلِّ على الحبيب المصطفي صلى الله عليه وسلم .
بعد أن تحالف بني عبد مناف ، مسلمهم وكافرهم ، على حماية النبي صلى الله عليه وسلم ممن يريدون قتله ، باستثناء أبي لهب الذي تحالف مع المشركين ، صار المشركون في حيرة من أمرهم ، لأنهم عرفوا أنهم لو قاموا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم فسوف تُسفك دماؤهم ، بل ربما يفضي ذلك إلى استئصالهم وهلاكهم .
وفي محاولة للتفكير في حل لمواجهة هذا الموقف ، عقد كفار مكة اجتماعًا طارئًا في خيف بني كنانة ( الذي يُسمى الآن المعابدة ) ، وخرجوا منه في نهاية الأمر بقانون جديد ، لحرب أهل الإيمان ، وقرروا بالإجماع أن ينفذوا هذا القانون .
وكان هذا القانون هو ” المقاطعة ” وتفعيل سياسة الحصار الاقتصادي لبني عبد مناف ، وإعمال سياسة التجويع الجماعي لهم ، سواءٌ أكانوا كفارًا أم مسلمين ، كما قرروا أن لا يناكحوهم ، أي لا يزوّجونهم ، ولا يتزوجوا منهم ، وأن لا يبايعوهم ، أي لا يبيعون لهم ولا يشترون منهم ، وأن لا يجالسوهم ، ولا يخالطوهم ، ولا يدخلوا بيوتهم ، ولا يكلموهم ، وأن لا يقبلوا من بني هاشم وبني المطلب صلحًا أبدًا ، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يُسْلِموا إليهم رسول الله ﷺ للقتل .
وقد صاغوا قانون العقوبات هذا في صحيفة ، ثم علقوها في جوف الكعبة .
وكان الذي كتب هذه الصحيفة هو ” بغيض بن عامر بن هاشم ” فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم فَشُلَّت يده .
وقد تقاسم الكافرون بآلهتهم على تنفيذ هذا القانون الظالم الذي يخالف كل أعراف وتقاليد وقيم أهل مكة ، وبالفعل بدأ تنفيذ هذا الحصار الرهيب في أول ليلة من ليالي المُحَرَّم في السنة السابعة من البعثة ، وقد دخل بنو هاشم وبنو المطلب ، مؤمنهم وكافرهم ، إلى شِعب أبي طالب وتجمعوا فيه ، ومعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وذلك ليكونوا جميعًا حوله كي يحموه من أهل مكة .
ومن حينها تكون قد بدأت مرحلة جديدة من المعاناة والألم ، تلك التي عاشها المسلمون في بداية الدعوة الإسلامية ، فقد قُطع الطعام بالكلية عن المحاصَرين ، لا بيع ولا شراء ، حتى الطعام الذي كان يدخل مكة من خارجها ، وكان يذهب بنو هاشم لشرائه ، كان القرشيون يزيدون عليهم في السعر حتى لا يستطيعوا شراءه ، ومن ثَمَّ يشتريه القرشيون دون بني هاشم . وهكذا قلَّ الطعامُ ، ونقص الزادُ ، وجَهِد المسلمون وأقاربهم وحلفاؤهم من هذا الحصار ، والتضييق الاقتصادي .
واعتدت قريش على من أسلم فأوثقوهم ، وآذوهم ، واشتد البلاء ، وعظمت الفتنة ، وزُلزل المسلمون زلزالًا شديدًا .
ومضت الأيام والأشهر وحال المسلمين المحاصرين يزداد من سيىء إلى أسوأ ، وقد بلغ الجَهد بالمُحاصَرين حتى كان يُسمَع أصوات الصبيان يصرخون من شدة وألم الجوع ، وحتى اضطروا إلى التقوت بأوراق الشجر ، بل وإلى أكل الجلود ، وقد ظلت هذه العملية وتلك المأساة البشرية نحو ثلاثة أعوام كاملة !! ثلاث سنوات من الظلم والقهر والإبادة الجماعية .
وكانوا لا يخرجون من الشعب لشراء الحوائج إلا في الأشهر الحرم ، وكانوا يشترون من العير التي ترد مكة من خارجها ، ولكن كانت قريش تتسابق إليها وتشتريها وتزيد الأسعار في السلعة حتى لا يستطيع أحد من المسلمين الشراء ، وكانوا إذا قدمت العير مكة وجاء أحدهم السوق ليشتري شيئًا من الطعام لعياله قام عدو الله أبو لهب فقال : ( يا معشر التجار غالوا على أصحاب محمد حتى لا يدركوا معكم شيئًا ، فقد علمتم مالي ووفاء ذمتي فأنا ضامن ألا خسارة عليكم ).
وكان أغنياء المشركين يغطون على من دونهم فيزيدون عليهم في قيمة السلعة أضعافًا فيرجع الهاشمي لأطفاله وهم يتضاغون من الجوع وليس في يديه شيئًا يطعمهم به ، ويغدو التجار على أبي لهب فيربحهم فيما اشتروا من الطعام واللباس ، حتى جهد المسلمون ومن معهم جوعًا وعريًا ، حتى قال أبو طالب : ( جزى الله عنا عبد شمس ونوفلًا عقوبة شر عاجلًا غير آجلًا ).
وكان بعض المشركين يتعاطف مع أرحامه المحصورين هناك ، فكانوا يرسلون إليهم حملات إغاثية ليلًا ، يستَخْفُون بها عن أعين قريش .. فكان أحدُ المشركين وهو ” هشام بن عمرو العامري ” يحمل البعير بالطعام والثياب ، ويأخذ بخطام البعير حتى يقف على رأس الشِّعب ، ثم يخلع خِطام البعير ويطلقه في الشِّعب .
وكان حكيم بن حزام يرسل الطعام لعمته خديجة بنت خويلد سرًا ، فرآه أبو جهل يومًا ، فجعل يمانعه عن إيصال الطعام ، ويهدد بفضحه والتشهير به ، فجاء أبو البختري بن هشام ، فوقف مع حكيم بن حزام ، وحصلت مشادة بينه وبين أبي جهل انتهت بضرب رأس أبي جهل بحجر حتى أدماه ، وانطلق حكيم إلى عمته بالطعام .
والشاهد من هذا الموقف أن المعونات الغذائية كانت تدخل إلى الشِّعب سرًا ، لكنها كانت قليلة جدًا .
ولعل موقفًا واحدًا يصور لنا شيئًا من حالة الجوع التي عاناها النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المحصورين :
فها هو ذا سعد بن أبي وقاص يذكر لنا موقفًا لا ينساه في الشِّعب ؛ فيقول :
( خرجتُ ذات ليلة لأبول فسمعتُ قعقعة تحت البول ، فإذا قطعة من جلد بعير يابسة فأخذتُها وغسلتُها ، ثم أحرقتها ثم رضضتها ، وسففتها بالماء فقويت بها ثلاثًا ).
يحدث هذا في الشِّعب ، وأهل مكة مقيمون في ديارهم مطمئنون ، منعّمون !!!
وفي الحلقة القادمة إن شاء الله نعرف المزيد عن مأساة حصار المسلمين ومعاناتهم في شعب أبي طالب .
ونختم بخير ختام وهو الصلاة والسلام على نبينا العدنان وآله وصحبه الكرام .