ثبات الصحابة
ثبات الصحابة :
( ٣٠ ) الحلقة الثلاثون من سيرة الحبيب ﷺ :
هيَّا نُرسل للحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم صلاتنا وسلامنا .
بعد إسلام ” سعد بن أبى وَقَّاص ” رضي الله عنه وتهديد أمّه له بالإضراب عن الطعام والماء إن لم يترك دين محمد صلى الله عليه وسلم ، ورده عليها قائلًا : ” والله يا أمى لو كانت لك مائة نفس تخرج نفسًا تلو نفس على أن أترك دين محمد ما تركتُه ، فإن شئتي فكلى وإن شئتي فاتركى ” ، نزل قول الله تعالى :
” وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ ٱشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ ٱلْمَصِيرُ * وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَٱتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ”. (لقمان : 14-15)
لا يا سعد صاحبها بالمعروف يا سعد ، حتى ولو كانت مشركة !! لكن لا تترك دينك .. مهما حدث صاحبها يا سعد بالمعروف .
أرأيتم إنه الرحمن الرحيم !
هذا هو ديننا الحنيف دين الرحمة والبر ، فليفكر من يُؤذِي أمّه بقول أو فعل في عقوبة ذلك عند الله تعالى .
ومن أروع الأمثلة على ثبات الصحابة رضي الله عنهم وتحملهم للأذى في سبيل الله ، ما فعله الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود رضي الله عنه بعد إسلامه حين أراد ذات مرة أن يجهر بالقرآن ليدعو قريشًا للإسلام ، فقد اجتمع يومًا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : والله ما سَمِعَت قريش هذا القرآن يُجهَرُ لها به قط ، فمن رجل يُسمِعهُمُوه ؟
فقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه : أنا ، وكان رضي الله عنه ذا جسم نحيف ، قالوا : إنا نخشاهم عليك ، إنما نريد رَجُلًا له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه ( والمَنَعة هي العِز والقوة ).
قال : دعوني فإن الله سيمنعني ( أي يحفظني ).
فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام في الضحى ، وقريش في أنديتها ، حتى قام عند المقام ثم قرأ : بسم الله الرحمن الرحيم رافعًا بها صوتُه ، ” ٱلرَّحۡمَـٰنُ (١) عَلَّمَ ٱلۡقُرۡءَانَ (٢) ” ثم استقبلها يقرؤها ، فتأمَّلوه فجعلوا يقولون : ماذا قال ابن أم عبد ؟ ( أي عبدالله بن مسعود ) ثم قالوا : إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد ، فقاموا إليه ، فجعلوا يضربون في وجهه ، وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ .. ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثروا في وجهه ، فقالوا له : هذا الذي خشينا عليك ؛ فقال : ما كان أعداء الله أهون عليَّ منهم الآن ، ولئن شئتم لَأُغَادينهم بمثلها غدا ؛ قالوا : لا ، حسبُك ، قد أسمعتهم ما يكرهون .
لِله دَرُّ الصحابة بذلوا أنفسهم رخيصة في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى ، فماذا قدمنا نحن لديننا !
وبدأت قريش تشتاط غضبًا .
وذات يوم قال أبو جهل : هلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ بيْنَ أَظْهُرِكُمْ ؟ ( أي هل يُصَلِّي ويسجد فيما بينكم؟ )
فقيل : نَعَمْ ، فَقالَ : وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لَئِنْ رَأَيْتُهُ يَفْعَلُ ذلكَ لأَطَأنَّ علَى رَقَبَتِهِ ، أَوْ لأُعَفِّرَنَّ وَجْهَهُ في التُّرَابِ ( أي لأضعن قدمي على رقبته).
لكن انظروا كيف يدافع الله عن أوليائه ورسله ، فهو القائل عز وجل في الحديث القدسي : ” مَن عادَى لِي وَلِيًّا فقَدْ آذَنْتُهُ بالحَربِ “.
فعندما سجد النبي ﷺ اقترب منه أبو جهل ومشركي مكة ينظرون .. وعندما هَمَّ أبو جهل أن يؤذي النبي ﷺ تقهقر إلى الوراء فجأة خائفًا مذعورًا حتى وقع على ظهره ثم أخذ يجري .
فسأله المشركون : ما لَكَ ؟
فقال : إنَّ بَيْنِي وبيْنَهُ لَخَنْدَقًا مِن نَارٍ وَهَوْلًا وَأَجْنِحَةً .
فَقالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وَسَلَّمَ : ” لو دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ المَلَائِكَةُ عُضوًا عُضوًا “.
وعلى الرغم من هذه الآية الباهرة وغيرها ، إلا أن أبا جهل وأبا لهب لم يُفَكِّرا أن يعودا إلى الرشد ويؤمنا بالله بل تماديا في التكذيب !
فليكن هذا في ذاته رسالة لنا جميعًا ألا نتمسك بآرائنا الخاطئة ونعاند ونجادل بالباطل ، ولا تأخذنا العزة بالإثم .
ووسط كل هذا العذاب وهذه العداوة من رؤوس الكفر مع عنادهم وقسوتهم ، كان هناك على الصعيد الآخر أبو بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه الذي قال عنه الرسول صلي الله عليه وسلم : ” أرأَفُ أمَّتي بِأُمَّتي أبو بكرٍ “.
كان غنيًا جدًا .
وكان يشتري العبيد المسلمين ويحررهم ويقول لهم اذهبوا أنتم أحرار لوجه الله .
اشترى بلالًا واشترى عَمَّارًا وزِنِّيرة وجارية عمر ، رضي الله عنهم أجمعين ، كما عرفنا في حلقات سابقة .
أما والد أبي بكر رضي الله عنه ، واسمه ” أبو قحافة ” ، فقد كان مُشركًا ، إلا أنه قد أسلم بعد فتح مكة كما سنعرف إن شاء الله .
فقال لأبي بكر رضي الله عنه ذات مرة : أي بُنَيّ ، أراك تُعتِق أُنَاسًا ضعفاء ، فلو أنك أعتقتَ رِجالًا جلدًا ( أي أقوياء ) يقومون معك ويمنعونك ويدفعون عنك .. فقال : أي أبَتِ ، إنما أريد ما عند الله . فنزل فيه قرآنٌ يُتلَى حتى يومنا هذا : ” وَسَیُجَنَّبُهَا ٱلۡأَتۡقَى (١٧) ٱلَّذِی یُؤۡتِی مَالَهُۥ یَتَزَكَّىٰ (١٨) وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُۥ مِن نِّعۡمَةٍ تُجۡزَىٰۤ (١٩) إِلَّا ٱبۡتِغَاۤءَ وَجۡهِ رَبِّهِ ٱلۡأَعۡلَىٰ (٢٠) “.
ألا هنيئًا لأبي بكر رضي الله عنه .
وقيل قد نزلت الآيات بعد أن أعتق أبو بكر الصِّدِّيق بِلَالًا ، فقال المشركون ما فعل ذلك أبو بكر إلا لِيَدٍ كانت لبلال عنده ( بمعنى رد لجميلٍ فعله بلال لأبي بكر ) فكذَّبهم رب العزة بقرآن يُتلَى إلى قيام الساعة في قوله :
” وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُۥ مِن نِّعۡمَةٍ تُجۡزَىٰۤ (١٩) إِلَّا ٱبۡتِغَاۤءَ وَجۡهِ رَبِّهِ ٱلۡأَعۡلَىٰ (٢٠) “.
فليكن أبو بكر رضي الله عنه لنا قدوة في الرحمة والتكافل والإنفاق بلا حساب ابتغاء مرضاة الله .
واستمر الإيذاء فلم ترحم قريش أحدًا من المسلمين فى مكة وتَفَنَّنَت في إيذاء النبي ﷺ ، فكان المشركون يسخرون منه ويتهمونه بالجنون صلى الله عليه وسلم ، ولكن بلا فائدة ، فالإسلام يُؤَثِّر في القلوب والعقول وكان عدد المسلمين في زيادة كل يوم عن الذي قبله.
فبدأت قريش تشعر أنها وقعت في مشكلة كبيرة جدًا .
فقد اقترب موسم الحج الوثني .. وصارت قريش في رعب من تأثير كلام محمد ﷺ ، فخافت أن يُعجِب كلامه بعض القبائل فيؤمنوا به ويحاربوا قريشًا معه ، فكانوا لا يريدون أن يسمع أحد من القبائل كلامه صلى الله عليه وسلم .
فماذا ستفعل قريش لمنع وصول دعوة النبي صلى الله عليه وسلم للقبائل القادمة لمكة من أجل الحج ؟
وما ضَرُّهم أن يعرف الناس دين محمد ﷺ ؟ وهل ستنجح في ذلك ؟
سنعرف ذلك في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى .