إيذاء المشركين لرسول الله ﷺ 2
إيذاء المشركين لرسول الله ﷺ 2 :
( ٢٩ ) الحلقة التاسعة والعشرون من سيرة الحبيب ﷺ :
فلنبدأ بالصلاة والسلام على الحبيب ﷺ .
اللهمَّ صَلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا مُحَمَّدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين .
ما زلنا مع ردود أفعال المشركين تجاه صدع الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بالدعوة ( أي جهره بها ) ، بعد نزول قوله تعالى : ” فَٱصۡدَعۡ بِمَا تُؤۡمَرُ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡمُشۡرِكِینَ “.
ونُكمل في هذه الحلقة حديثنا عن الأساليب التي اتَّبعها مشركو قريش لإيذاء النبي صلى الله عليه وسلم وصدّه عن دعوته ، ومنها :
– المساومات والمداهنات وأنصاف الحلول :
حاول المشركون بهذا الأسلوب أن يلتقي الإسلام والجاهلية في منتصف الطريق بأن يترك المشركون بعض ما هم عليه ، ويترك النبي صلى الله عليه وسلم بعض ما هو عليه ، ” وَدُّوا۟ لَوۡ تُدۡهِنُ فَیُدۡهِنُونَ “. (القلم : ٩)
فقد عرض المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعبد آلهتهم عامًا ، ويعبدون ربه عامًا .
وفي رواية أنهم قالوا : لو قبلت آلهتنا نعبد إلهك .
كما رُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يطوف بالكعبة ، فاعترضه الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى ، والوليد بن المغيرة ، وأُمَيَّة بن خَلَف ، والعاص بن وائل السهمي ، وكانوا سادةً في قومهم ، فقالوا : { يا محمد هلم فلنعبد ما تعبد ، وتعبد ما نعبد فنشترك نحن وأنت في الأمر ، فإن كان الذي تعبد خيرًا مما نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه ، وإن كان ما نعبد خيرًا مما تعبد كُنتَ قد أخذت بحظك منه } ، فأنزل الله تعالى فيهم :” قُلۡ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلۡكَـٰفِرُونَ (١) لَاۤ أَعۡبُدُ مَا تَعۡبُدُونَ (٢) ” إلى آخر السورة .
فحسم الله مفاوضتهم المضحكة بهذه المفاصلة الجازمة .
ولعل اختلاف الروايات لأجل أنهم حاولوا هذه المساومة مرة بعد أخرى .
وفد قريش إلى أبي طالب :
وقد مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب ، فقالوا : { يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سَبَّ آلهتنا ، وعاب ديننا ، وسفه أحلامنا ، وضلل آباءنا فإما أن تكفه عنا ، وإما أن تُخَلِّي بيننا وبينه ، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه ، فنكفيكه } .. فقال لهم أبو طالب قولًا رقيقًا ، وردهم ردًا جميلًا ، فانصرفوا عنه ، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه ، يُظهر دين الله ، ويدعو إليه .
– الاضطهاد والتعذيب الذي لم يقتصر على الضعفاء بل طال السادة أيضًا :
عرفنا في الحلقات الماضية كيف نَكَّل الكفار بالمستضعفين من المؤمنين الذين أظهروا إسلامهم مثل عَمَّار بن ياسر ، وأبيه ، وأُمّه سمية ، وصُهَيب ، وبلال ، والمِقداد ، وخَبَّاب رضي الله عنهم أجمعين .
فقد أخذهم المشركون فألبسوهم أدراع الحديد ثم أُصهروا في الشمس في صحراء مكة ، وكانوا يُعذبونهم ليتركوا دين الإسلام حتى يغيب أحدهم عن الوعي ، ولا يدري ما يقول .
قال ابن عباس رضي الله عنه : ” والله كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالسًا من شدة الضر ، حتى يقولوا له : اللات والعزى إلهك من دون الله ، فيقول : نعم “.
وقد قيل أنه نزلت هذه الآية في المستضعفين من المؤمنين الذين عذَّبهم المشركون ليفتنوهم عن دينهم :
” ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ “.
ورأينا كيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَسلَم من إيذاء المشركين أيضًا ، وذكرنا أمثلة على ذلك ، منها إيذاء عُقبة بن أبي مُعَيط له صلى الله عليه وسلم عِدَّة مرات ، حين بصق عليه في مرة ، وألقى على ظهره الشريف سلا جزور مرة أخرى ، وخنقه خنقًا شديدًا في مرة ثالثة .
كما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتألم لِمَا أُوذِيَ به أصحابه ، وكان يتأذَّى هو به لكونه بسببه ( أي بسبب اتّباعهم له صلى الله عليه وسلم ).
ولم يكتفِ المشركون بإيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والمستضعفين من المؤمنين ، بل آذوا عددًا من سادة قريش وأشرافها ممن آمنوا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم مثل مُصعَب بن عُمَير وسعد بن أبي وَقَّاص رضي الله عنهما .
فتعالوا لنتعرف على القليل مما تعرَّض له هذان الصحابيان الجليلان من إيذاء في سبيل الله .
- الصحابي الجليل ” مُصعَب بن عُمَير بن هاشم بن عبد مناف ” رضي الله عنه ، أو ” مُصعب الخير ” كما سَمَّاه النبي صلى الله عليه وسلم :
كان مصعب رضي الله عنه شابًا غنيًا أنيقًا مُدَلَّلًا ينتمي لأسرة قرشية شريفة ، وكان مُترَفًا مُنَعَّمًا يرتدي أفخم الثياب ويتطيَّب بأفخر العطور .
فلما أضاء نور الإيمان قلبه ترك الدنيا ومتاعها الزائل واختار الهجرة والجهاد في سبيل الله ، مُضَحِّيًا بكل ما كان يتمتع به من نعم الدنيا ، حتى استُشهد في غزوة أُحُد دفاعًا عن دين الله .
وكانت أم مُصعَب : ” خُناس بنت مالك ” تتمتع بقوة فذَّة في شخصيتها ، وكانت تُهاب إلى حد الرهبة ، ولم يكن مُصعَب حين أسلم يخاف على ظهر الأرض قوة سوى أمه ، لذا قرَّر أن يكتم إسلامه حتى يقضي الله أمرًا .
وظلَّ يتردد على دار الأرقم ، ويجلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قرير العين بإيمانه ، وبتفاديه غضب أمه التي لا تعلم خبر إسلامه ، ولكن مكة في تلك الأيام بالذات ، لا يخفى فيها سر ، فعيون قريش وآذانها كانت على كل طريق .
ولقد أبصر به ” عثمان بن طلحة ” ، وهو يدخل خُفية إلى دار الأرقم ، ثم رآه مرَّة أخرى ، وهو يصلي كصلاة محمد صلى الله عليه وسلم ، فأسرع إلى أم مُصعَب ، وألقى عليها النبأ الذي طار بصوابها .. فمضت به إلى ركن قصيّ من أركان دارها ، وحبسته فيه ، وأحكمت عليه إغلاقه ، وظَلَّ رهين محبسه ذاك .
ولما خرج بعض المؤمنين مهاجرين إلى أرض الحبشة ، وسمع مُصعَب رضي الله عنه بذلك ، غافل أمه ، وحُرَّاسه ، ومضى إلى الحبشة مهاجرًا في سبيل الله .
وخرج مصعب من النعمة الوافرة التي كان يعيش فيها ، مُؤثِرًا الشَّظَف ، والفاقة .
وأصبح الفتى المُتَأنِّق المُعَطَّر ، لا يُرَى إلا مُرتديًا أخشن الثياب ، يأكل يومًا ، ويجوع أيامًا .
وتروي لنا الصحابية الجليلة ” ليلى بنت أبي حثمة ” رضي الله عنها ، وكانت واحدة من النسوة الأربع اللاتي هاجرن إلى أرض الحبشة الهجرة الأولى ، أن الرجال كانوا يمشون على أقدامهم ، وكان مُصعَب بن عُمَير رقيق البشرة ، وتقول : أنها رأت رجليه يقطران دمًا من الرقة ( أي لنعومة جلده لِتَرَفِه وغِناه ) ، وأنَّ زوجها الصحابي عامر بن ربيعة رضي الله عنه خلع حذاءه فأعطاها له .
ومكث مُصعَب بالحبشة مع إخوانه المهاجرين رضي الله عنهم ، ثم عاد معهم إلى مكة .
وحاولت أمه حبسه مرَّة أخرى بعد رجوعه من الحبشة ، فأقسم على نفسه لئن هي فعلت ليقتلن كل من تستعين به على حبسه ، ولما يئست أمه من عودته للكفر منعت عنه كل ما كانت تُفيض عليه من نعمة ، ورفضت أن يأكل طعامها إنسان هجر الآلهة ، حتى وإن كان ابنها !
وقالت له ، وهي تُخرجه من بيتها : { اذهب لشأنك ، لم أعد لك أمًا! } .. فاقترب منها ، وقال : ” يا أُمّه إني لك ناصح ، وعليك شفوق ، فاشهدي بأنه لا إله إلا الله ، وأن محمدًا عبده ورسوله ” ، فأجابته غاضبة هائجة : { قسما بالثواقب ، لا أدخل في دينك فيُزرى برأيي ، ويُضعَّفُ عقلي }.
ثم هاجر إلى الحبشة للمرة الثانية مع الأصحاب الذين أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالهجرة ، وبعد عودته اختاره النبي صلى الله عليه وسلم مبعوثًا للدعوة للإسلام في يثرب .
ألا هنيئًا له رضي الله عنه أن باع الدنيا بالآخرة ، وذلك هو الفوز الكبير .
- سعد بن أبي وَقَّاص رضي الله عنه :
هو سعد بن مالك بن أهيب بن عبد مناف ، أحد العشرة المُبَشَّرين بالجنة ، وآخرهم موتًا ، وكان أبواه من أشراف قريش وسادتهم ، واشتغل رضي الله عنه في بري السهام وصناعة القِسِيّ ، وهذا عمل يؤهِّل صاحبه لإتقان الرَّمي ، وحياة الصيد والغزو ، وكان يمضي وقته وهو يخالط شباب قريش وساداتهم ، ويتعرف على الدنيا عن طريق الحجيج الوافد إلى مكة المكرمة في أيام الحج ومواسمها .
وكان رضي الله عنه ممن دعاهم أبو بكر للإسلام ، فأسلم رضي الله عنه مُبَكِّرًا ، وهو ابن سبع عشرة سنة ، وبعد إسلامه تركت أمه الطعام ليعود إلى الكفر ، وقالت له : { والله يا سعد لإن لم تنتهِ عن دين محمد لا آكل طعامًا ولا أشرب شرابًا حتى أموت ، ويقال لك يا قاتل أمك! }.
فقال لها : ” تعلمين والله يا أُمَّاه ، لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسًا نفسًا ، ما تركت ديني هذا لشيء ؛ فإن شِئتِ فَكُلي ، وإن شِئتِ لا تأكلي “. فَحَلَفَتْ ألَّا تكلمه أبدًا حتى يكفر بدينه ، ولا تأكل ولا تشرب .
فنزلت آية من القرآن الكريم ، كلام الله تبارك وتعالى ، في هذه الحادثة !
فلماذا ؟ وماذا قال الحق سبحانه وتعالي فيها ؟
سنعرف ذلك في الحلقة القادمة إن شاء الله .