إيمان أبي بكر
إيمان أبي بكر :
( ٢٣ ) الحلقة الثالثة والعشرون من سيرة الحبيب ﷺ :
تعالوا نُصَلِّ على الحبيب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
عودة للقاء الحبيب ﷺ المنتظر مع جبريل عليه السلام :
يحكي لنا النبي صلى الله عليه وسلم قصة لقائه الثاني بجبريل عليه السلام فيقول :
” جَاوَرتُ في حِرَاءٍ ، فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي هَبَطتُ ، فَاستَبطَنتُ الوَادِيَ فَنُودِيتُ فَنَظَرتُ أمَامِي وخَلْفِي ، وعَن يَمِينِي وعَن شِمَالِي ، فَإِذَا هو جَالِسٌ علَى كُرسِيٍّ بيْنَ السَّمَاءِ والأرضِ ، فأتَيْتُ خَدِيجَةَ فَقُلتُ : دَثِّرُونِي ، وصُبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا ، وأُنْزِلَ عَلَيَّ : { یَـٰۤأَیُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ (١) قُمۡ فَأَنذِرۡ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرۡ (٣) } (سورة المُدَّثِّر) “.
وقد أَحَبَّ النبي صلى الله عليه وسلم جِبْرِيل عليه السلام حُبًا شديدًا ، ونشأت بينهما علاقة مودة عميقة .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يذهب لخديجة رضي الله عنها ، ويحكي لها ما يتعلمه من جبريل عليه السلام ، ويقرأ عليها الآيات التي يتلقَّاها من ربه بواسطة جبريل عليه السلام ، فكانت رضي الله عنها أول من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ، كما كانت أول من توضأ وصلى وسجد لرب العالمين بعد محمد صلى الله عليه وسلم .
وتتابع نزول جبريل عليه السلام بالقرآن الكريم على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت سورة العلق والمُزَّمِّل والمُدَّثِّر والفاتحة .
وبدأ النبي عليه الصلاة والسلام في التفكير بطريقة يُبلغ بها دين الله ، فبدأ النبى ﷺ بدعوة أصحابه المُقَرَّبين ، ولكن من سيختار أولًا ؟
لقد اختار النبي ﷺ أبا بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه ” خير البشر بعد الأنبياء ” وأقرب الناس لقلبه صلى الله عليه وسلم .
ذهب إليه الحبيب صلى الله عليه وسلم وعرض عليه الإسلام ، فآمن الصِّدِّيق أبو بكر رضي الله عنه بكل يقين وبلا تردد ، وما قال آخذ يومًا أو يومين للتفكير ؛ بل أسرع إلى الإسلام إسراعًا ، وهو أمر لافت للنظر ، فأحيانًا بعض الرجال يعتقدون أنه من الحكمة التَّرَوِّي ، وعدم التَّسَرُّع ، وأخذ وقت طويل في التفكير قبل الإقدام على خطوة من خطوات الحياة ، خاصةً لو كانت الخطوة مصيرية ، وهذا قد يكون صوابًا في بعض الأحيان ؛ ولكن في أحيان أخرى ، عندما يكون الحقُّ واضحًا جليًّا مضيئًا كالشمس يُصبح التَّرَوِّي حماقة ، وتُصبح الأناة كسلًا ، وتُصبح كثرة التفكير مَذمَّة .
فمِن الناس مَنْ آمن بعد أيام من سماع الدعوة ، ومنهم مَنْ آمن بعد سنوات ، ومنهم مَنِ انتظر حتى تم الفتح ثمَّ آمن ، ومرَّت الأيام وصَدَّقَ المكذبون والمعاندون ، ودخلوا الإسلام ؛ لكن كان أبو بكر رضي الله عنه هو الفائز بأجر السبق .
” وَٱلسَّـٰبِقُونَ ٱلسَّـٰبِقُونَ (١٠) أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلۡمُقَرَّبُونَ (١١) فِی جَنَّـٰتِ ٱلنَّعِیمِ (١٢) “. (الواقعة : ١٠-١٢)
إنَّ سرعة إيمان أبي بكر رضي الله عنه تحتاج إلى دراسة ، فالمسألة وإن كانت مرتبطة بالحبِّ العميق الذي كان بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم ، فإن هناك أسبابًا منطقية كثيرة تجعل إسلام الصِّدِّيق بهذه السرعة أمرًا عقليًّا مقبولًا ؛ فالناظر إلى أخلاق الصِّدِّيق رضي الله عنه يجد أن فيها اقترابًا عجيبًا من أخلاق الأنبياء عليهم السلام .
لقد كان الصِّدِّيق رضي الله عنه يتحلَّى بأخلاق التواضع ، والكرم ، والعِفَّة ، والبعد عن أماكن الفساد ، والمروءة ، وخدمة الناس ، ويكفينا أن نعرف أن كُلًا منهما ( أي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه ) لم يسجد لصنم في حياته قط ، وأن كليهما كذلك لم يشرب خمرًا قط ، لا في جاهلية ولا في إسلام .
ولعلَّ هذه الأخلاق المتقاربة كانت أكبر العوامل التي أدَّت إلى إيمان أبي بكر رضي الله عنه بهذه السرعة ، وستكون هناك أسباب أخرى سنتعرَّف عليها من خلال قصته في السيرة النبوية إن شاء الله .
ولرسول اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أحاديث عديدة بشأن الصِّدِّيق وفضله وسبقه .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” إنَّ مِن أمَنِّ النَّاسِ عَلَيَّ في صُحبَتِهِ ومالِهِ أبا بَكْرٍ ، ولو كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا مِن أُمَّتي لاتَّخَذتُ أبا بَكْرٍ ، إلَّا خُلَّةَ الإسلامِ “.
وقال صلى الله عليه وسلم :
” لو كُنتُ مُتَّخِذًا من أَهْلِ الأرضِ خليلًا لاتَّخذتُ أبا بكرٍ خليلًا ، ولَكِن صاحبُكُم خليلُ اللهِ ” ( يعني نفسَهُ صلى الله عليه وسلم ).
( والخُلَّة هي : المحبة التي تخللت روح المحب ، وقلبه ، حتى لم يبق فيه موضع لغير المحبوب ).
وعندما حدث خلاف بين أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه وبين أحد الصحابة رضي الله عنهم .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
” هلْ أنتُمْ تَارِكُونَ لي صَاحِبِي ، هلْ أنتُمْ تَارِكُونَ لي صَاحِبِي “.
ثمَّ أكمل صلى الله عليه وسلم أسباب قوله ذلك فقال : ” إنِّي قُلتُ : يا أيُّها النَّاسُ ، إنِّي رَسولُ اللهِ إلَيْكُمْ جَمِيعًا ، فَقُلتُمْ : كَذَبْتَ ، وقالَ أبو بَكْرٍ : صَدَقْتَ “.
ألا هنيئًا للصِّدِّيق رضي الله عنه .
وبعد إسلام أبي بكر رضي الله عنه بقليل أسلم علي يديه أربعة من المُبَشَّرين بالجنة هم : عثمان بن عفان ، وطلحة بن عُبَيد الله ، والزُّبَير بن العوَّام ، وسعد بن أبي وقّاص رضي الله عنهم أجمعين .
وكان عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أول من أسلم من الصبيان ، وكان عمره حين أسلم حوالي عشر سنوات .
وأسلم كذلك زيد بن حارثة رضي الله عنه ( مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وابنه بالتَّبَنِّي قبل تحريم التَّبَنِّي ) ، وكان أول من أسلم من الموالي أو العبيد .
واستمر عدد الصحابة الذين اعتنقوا الإسلام في الزيادة ، وصاروا في حاجة إلي مكان يجمعهم يتدارسون فيه أمور دينهم ويتعلمون فيه القرآن .
فخرج عليهم شاب عمره ١٣ عامًا اسمه الأرقم فتبرع ببيته للمسلمين .
واختار النبي صلى الله عليه وسلم دار الأرقم بن أبي الأرقم لهذا الغرض .. وصار اجتماع المسلمين في هذه الدار المباركة ليخلد الله تعالى اسم الأرقم وداره في التاريخ باعتبارها الدار التي جمعت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم لتعلم شريعة الإسلام وتلاوة القرآن .
وكان النبي ﷺ يُعَلِّم الصحابة رضي الله عنهم القرآن في دار الأرقم ، ونزلت آيات من جزء عمّ ( الجزء الثلاثين ) ؛ آيات قصيرة ذات تواصل بديع كلها تتكلم عن الجنة والنار ، وعن يوم القيامة ، وعن رؤية الله عز وجل ، وعن رحمة ربنا سبحانه وتعالى .
وكان اجتماع المسلمين فى دار الأرقم سريًا في بداية البعثة لخوفهم من إيذاء الكفار لهم .
والسرية كانت أمر مرحلي لابد منه ، لأنه مع القلة يكون الاستضعاف ، ومع الاستضعاف لابد من الكتمان والتلطُّف والحذر حتى يُظهر الله تعالى دينه كما فعل أهل الكهف ومؤمن آل فرعون .
ولقد أحب الصحابة رضي الله عنهم الإسلام ونبي الإسلام ﷺ حُبًا جمًا ولانت بالإيمان قلوبهم .
وبعد مرور حوالي ثلاث سنوات من الدعوة السرية ، نزل على النبي ﷺ قوله تعالى : ” فَٱصۡدَعۡ بِمَا تُؤۡمَرُ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡمُشۡرِكِینَ ” ، فكان ذلك بمثابة الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم أن يجهر بدعوته .
ونزل قوله تعالى : ” وَأَنذِرۡ عَشِیرَتَكَ ٱلۡأَقۡرَبِینَ “.
فماذا تعني ﴿ وَأَنذِرۡ عَشِیرَتَكَ ٱلۡأَقۡرَبِینَ ﴾ ؟
سنعرف في الحلقة القادمة إن شاء الله .