فرص مواتية
هناك فرص مواتية في أمر الدنيا أو أمر الآخرة ، فالمؤمن الكَيِّس الفَطِن يستغلهما جميعًا ، ولكنه يهتم بأمر الآخرة أكثر بكثير من اهتمامه بأمر الدنيا ؛ لأنه يعلم يقينًا أنها دنيا فانية ، فيما يوقن أن الآخرة هي الدار الباقية ؛ هكذا كان يفعل الصديق أبو بكر وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تُحصَر .
والسعيد من يستغل الفرصة حينما تأتيه ، فيمسك بتلابيبها ، ويجعلها في مرضاة الله ، جلّ في علاه ، يحصل بها على الحسنات ، ويرفعه الله بها درجات ؛ ومن ذلك الصبر على الطاعة ، والصبر على المكاره ، وأين نحن من صبر الأنبياء عليهم السلام .
وكذلك الصدق ، والإخلاص ، والمراقبة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والتعاون على البر والتقوى ، وحسن الجوار ، وطيب الكلام ، وقضاء حوائج المسلمين ، والإصلاح بين الناس ، وهكذا .
إذا أتتك الفرصة ، فلا تضيعها ، فإذا عزمت ، فتوكل على الله ، وسيعينك ؛ لأنه مطلع على النيات .
- فرص ذهبية :
ومن أروع القصص والحكايات في استغلال الفرص :
- قاتل المائة الذي استغل فرصة أن له توبة ؛ فنفذ نصيحة العالِم فورًا ؛ فتقبل الله توبته ، وغفر له .
- وهذا الفضيل بن عياض ( قاطع الطريق ) الذي سمع آية ؛ فتاب بها وأناب ، وأصبح فيما بعد إمام الحرمين الشريفين !
- وهذه المرأة البغي من بني إسرائيل ، التي سقت كلبًا كان يلهث من شدة العطش ؛ فغفر الله لها !
- وهذا الرجل الذي انتهز الفرصة عندما رأى شجرة في ظهر الطريق كانت تؤذي الناس ، فقطعها ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” لقد رأيت رجلًا يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين “. (رواه مسلم)
والكتب ملأى بالقصص والمواقف في هذا الصدد من انتهاز الفرص التي اغتنمها أصحاب النيات الصادقة في مرضاة خالقهم سبحانه وتعالى .
- مواسم الطاعات :
ما أكثر مواسم الطاعات ، في حياة المسلم ، هي نفحات ، يجب أن نتعرض لها بحب وثبات ، حتى الممات ؛ ومن هذه الفرص : شهر رمضان ، والعشر الأول من ذي الحجة ، وموسم الحج ، والعمرة ، وصيام التطوع ، والليل وجماله وخصوصًا وقت السحر مع القيام والتهجد ، وغير ذلك .
- الهجرة المباركة :
الهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة هي أعظم حدث في التاريخ الإسلامي كله ؛ من أجل ذلك سنتوقف معها قليلًا ، فهي من أعظم الفرص التي جاءت إلى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نجح فيها الطالب الأول في مدرسة الإسلام أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه بتقدير ” امتياز ” ؛ كما أقر بذلك صاحبه وأجاز ، ونجح الصحب الكرام كذلك ؛ فنجد القرآن الكريم يجزل الثواب لمن هاجروا في سبيل الله بعد أن أُخرِجوا من ديارهم ، وتم إيذاؤهم ، وهذا الثواب ذكرته هذه الآية الكريمة في سورة آل عمران :
” فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ “. (آل عمران : 195)
وقد امتدح الله عز وجل المهاجرين ، وكذلك الأنصار رضي الله عنهم أجمعين ، في آيات كثيرة حيث وصفهم الله بأنهم هم المؤمنون حقًّا ، وذلك في سورة الأنفال حيث قال تعالى :
” وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَـئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75) “.
- هجرة إلى الله ورسوله :
اقرأ جيِّدًا هذا الحديث النبوي الشريف :
عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ” إنما الأعمال بالنيّات ، وإنما لكل امريء ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها ، أو امرأة ينكحها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه “. (رواه البخاري ومسلم)
لقد نال هذا الحديث النصيب الأوفر من اهتمام علماء الحديث ؛ وذلك لاشتماله على قواعد عظيمةٍ من قواعد الدين ، حتى إن بعض العلماء جعل مدار الدين على حديثين : هذا الحديث ، بالإضافة إلى حديث عائشة رضي الله عنها : ( من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد ) ؛ ووجه ذلك : أن حديث عائشة ميزان للأعمال الظاهرة ، وحديث عمر ميزان للأعمال الباطنة .
ندعوكم لقراءة : الأعمال بالنيات
- أصل الهجرة :
الانتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام ، أو من دار المعصية إلى دار الصلاح ، وهذه الهجرة لا تنقطع أبدًا ما بقيت التوبة ؛ فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
” لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها “.
( رواه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود والنسائي في السنن ).
وفي قوله صلى الله عليه وسلم : ( فهجرته إلى ما هاجر إليه ) ، لم يذكر ما أراده من الدنيا أو المرأة ، وعبّر عنه بالضمير في قوله : ( ما هاجر إليه ) ؛ وذلك تحقيرًا لما أراده من أمر الدنيا واستهانةً به واستصغارًا لشأنه ، حيث لم يذكره بلفظه .
- المسلم والمهاجر :
من الفرص المواتية لكل مسلم أن يحفظ لسانه ويده عن أذى الناس ، وهذا أمر سهل ؛ لأنه بمقدورك .
والمهاجر : من هجر ما نهى الله تبارك وتعالى عنه .
هي فرصة مواتية يجب استغلالها ، والله الموفق و المستعان ، وعليه التكلان .
قال المعلم صلى الله عليه وسلم :
” المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه “. (متفق عليه)
يجب على المسلم الكيِّس الفَطِن أن يجعل الآخرةَ أكبر همّه في الأمور كلها ، ويتعهّد قلبه ويحذر من الرياء أو الشرك الأصغر ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم مشيرًا إلى ذلك : ” من كانت الدنيا همّه ، فرّق الله عليه أمره ، وجعل فقره بين عينيه ، ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له ، ومن كانت الآخرة نيّته ، جمع الله له أمره ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة “. (رواه ابن ماجه)
- قارون ومن على شاكلته :
كانت لقارون فرص عديدة ، ضَيَّعَها جميعًا ؛ قال الله تبارك وتعالى في سورة القصص :
” وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ “. (القصص : 77)
قال الإمام ابن كثير في التفسير :
وقوله : ( وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا ) ؛ أي : استعمل ما وهبك الله من هذا المال الجزيل والنعمة الطائلة ، في طاعة ربك والتقرب إليه بأنواع القربات ، التي يحصل لك بها الثواب في الدار الآخرة .
( ولا تنس نصيبك من الدنيا ) ؛ أي : مما أباح الله فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح ، فإن لربك عليك حقًّا ، ولنفسك عليك حقًّا ، ولأهلك عليك حقًّا ، ولزورك عليك حقًّا ، فآت كل ذي حق حقه .
( وأحسن كما أحسن الله إليك ) ؛ أي : أحسن إلى خلقه كما أحسن هو إليك ، ( ولا تبغ الفساد في الأرض ) ؛ أي : لا تكن همتك بما أنت فيه أن تفسد به الأرض ، وتسيء إلى خلق الله ( إن الله لا يحب المفسدين ).