قس بن ساعدة
قال قس بن ساعدة الإيادي :
” شرق وغرب ، ويتم وحزب ، ويابس ورطب ، وأجاج وعذب ، وشموس وأقمار ، ورياح وأمطار ، وليل ونهار ، وإناث وذكور ، وبرار وبحور ، وحب ونبات ، وآباء وأمهات ، وجمع وشتات ، وآيات في إثرها آيات ، ونور وظلام ، ويسر وإعدام ، ورب وأصنام ، لقد ضل الأنام ، نشوٌ مولود ، ووأدٌ مفقود ، وتربية محصود ، وفقير وغني .. تبًّا لأرباب الغفلة ، ليصلحن العامل عمله ، وليفقدن الآمل أمله ؛ بل هو إله واحد ، ليس بمولود ولا والد ، أعاد وأبدى ، وأمات وأحيا ، وخلق الذكر والأنثى ، رب الآخرة والأولى “.
ونادى على قومه ناصحًا إياهم ، قال : ” يا معشر إياد ، أين ثمود وعاد ؟
وأين الآباء والأجداد ؟
وأين العليل والعواد؟
كل له معاد .
يقسم قس برب العباد ، وساطح المهاد ، لتُحشرُنّ على الانفراد ، في يوم التناد ، إذا نُفخ في الصور ، ونُقِر في الناقور .. فويلٌ لمن صدف عن الحق الأشهر ، والنور الأزهر ، والعرض الأكبر ، في يوم الفصل ، وميزان العدل ، إذا حكم القدير ، وشهد النذير ، وبعد النصير ، وظهر التقصير ، ففريق في الجنة وفريق في السعير “.
- هو قس بن ساعدة بن حذاق بن ذهل بن إياد بن نزار . أول من آمن بالبعث من أهل الجاهلية .. وأول من توكأ على عصا .. وأول من تكلم بـ ” أما بعد “.
- صفاته :
قال عنه الشيخ / مصطفى شيخ مصطفى :
هو رجلٌ من أهل البيان ، سرَتِ الحكمة فيه ، واتَّسم بالخَطَابة ، فكان خطيبَ العَشيرة ؛ بل وخطيب العرب .
مِن صفاته الجسَديَّة جَسامةٌ وطُولٌ فارع .
إلى ” إيادٍ ” يَنتهي نسَبُه ، وفي ” نَجْران ” مسْكَنُه ، كان أُسْقُفَّها وخطيبَها وشاعِرَها ، خالَطَ العامَّة والخاصَّة ، ووفد على المُلُوك وناظَرَهم ، وعَمِل في الطِّب وبَرَع .
أمَّا ما مَيَّز هذا الرَّجُل ، فهي حِكْمةٌ لاَزَمتْه ، وخَطابةٌ شَهرته ، وعَقلٌ ولِسانٌ رفَعاه .
شاعرٌ أديب ، قال الشِّعرَ وأجَاد ، ناظَر مَلِك الرُّوم في الحِكمة والطِّب .
رجلٌ عاش في الجاهليَّة قُبيل الإسلام ، كان يَدْعو إلى التَّوحيد ، ونَبْذِ الشِّرك ، ونبْذ عبادة الأوثان ، بليغٌ مِن البُلغاء ، وشاعر مِن الشُّعراء ، وحكيمٌ من الحكماء ، وطبيب من الأطِبَّاء ، مفوَّهٌ ، حين يَخطب كأنه يَملِك العقول ، ويَسحر القلوب ، وصلَتْ شُهرته إلى العَرَب جميعًا ، بل وتعدَّتْها إلى العالَميَّة في ذلك الزَّمن ؛ الملوك ، والقياصرة .
- نسبه :
أمَّا نسَبُه فقد جاء في [ الأغاني ] :
{ هو قُسُّ بنُ سَاعِدةَ بنِ عمْرِو بنِ عدِيِّ بنِ مالكِ بنِ أيدعانَ بنِ النَّمرِ بنِ واثلةَ بنِ الطمثانِ بنِ زيدِ مناةَ بنِ يقدمَ بنِ أفْصَى بنِ دعمي بنِ إياد }.
يُقال : { إنه أول مَن عَلا على شَرَفٍ وخطَب عليه ، وأوَّلُ من قال في كلامه : ” أما بعْدُ ” ، وأوَّل من اتَّكأ عند خطبته على سيف أو عصا }.
- وقال صاحب [ جواهر الأدب ] :
{ هو خطيب العرب قاطبةً ، والمضروب به المثَل في البلاغة والحكمة ، كان يَدِين بالتوحيد ، ويُؤمن بالبَعث ، ويَدعو العربَ إلى نَبْذ العُكوف على الأوثان ، ويُرشدهم إلى عبادة الخالق ، وكان الناس يتحاكمون إليه ، ويَذْكرون أنه هو القائل : ” البيِّنة على مَن ادَّعى ، واليَمِين على مَن أَنكر “}.
- من خطبه : ما جاء ذكره في [ الأغاني ] للأصفهاني :
” أيُّها الناس ، اسمعوا وعُوا ، مَن عاش مات ، ومن مات فات ، وكل ما هُو آتٍ آت .
ليلٌ دَاج ، وسماء ذاتُ أبراج ، بِحار تَزْخر ، ونُجوم تزْهر ، وضَوء وظَلام ، وبِرٌّ وآثام ، ومَطْعم ومَشْرَب ، وملْبَس ومركَب .
ما لي أَرى الناسَ يَذهبون ولا يَرجعون ؟ أرَضُوا بالمُقَام فأَقاموا ؟ أم تُرِكوا فناموا ؟ وإِلَهِ قُسِّ بن ساعدة ، ما على وجْهِ الأرضِ دِينٌ أفْضلَ مِن دِينٍ قد أظلَّكم زمانُه ، وأدركَكم أوانُه ، فطُوبَى لِمَن أدركه فاتَّبعه ، وويْلٌ لمن خالَفه .
ثم أنشأ يقول :
فِي الذَّاهِبِينَ الأَوَّلِينَ
مِنَ القُرُونِ لَنَا بَصَائِرْ
لَمَّا رَأَيْتُ مَوَارِدًا
لِلْمَوْتِ لَيْسَ لَهَا مَصَادِرْ
وَرَأَيْتُ قَوْمِي نَحْوَهَا
يَمْضِي الأَصَاغِرُ وَالأَكَابِرْ
لاَ يَرْجِعُ الْمَاضِي إِلَيْيَ
وَلاَ مِنَ الْبَاقِينَ غَابِرْ
أَيْقَنْتُ أَنِّي لاَ مَحَالَةَ
حَيْثُ صَارَ الْقَوْمُ صَائِرْ
ونحن إلى الله مَاضُون ، كادِحُون إليه فَمُلاقوه ، فهل يُنكِر ذلك عاقل؟! “.
( ياله من لبيبٍ عاقل ).
- جوانب من حكمة قس :
جاء في [ المستطرف ] :
قال قس بن ساعدة :
وَمَا قَدْ تَوَلَّى فَهْوَ لاَ شَكَّ فَائِتٌ … فَهَلْ يَنْفَعَنِّي لَيْتَنِي وَلَعَلَّنِي
” ممَّا جاء من ذلك ما بلَغَنا أنَّ قُسَّ بن ساعدةَ وأَكْثمَ بنَ صَيْفي اجتمَعا ، فقال أحدُهما لصاحبه : كم وَجدتَ في ابن آدم من العيوب ؟ فقال : هي أكثر مِن أن تُحصر ، وقد وَجدْتُ خصلةً إن استعملها الإنسان ستَرَت العيوب كلَّها ، قال : وما هي ؟ قال : حفظ اللسان “.
- وجاء في [ المَصون في الأدب ] :
” قال : جَمَع قُسُّ بن ساعدة ولَدَه ، فقال : إنَّ المِعَى تَكفيه البَقْلة ، وتَرْويه المَذْقة ، ومَن عيَّرَك شيئًا ففيه مثله ، ومَن ظلَمَك وجد مَن يَظلمه ، ومتى عدلْتَ على نفسك عَدَلَ عليك مَن فوقك ، وإذا نَهيتَ عن شيء فإنه نَفْسك ، ولا تَجمع ما لا تأكل ، ولا تأكل ما لا تَحتاجُ إليه ، وإذا ادَّخرْتَ فلا يكوننَّ كَنْزك إلاَّ فِعْلَك ، وكن عَفَّ العَيْلة ، مشترك الغِنَى ؛ تَسُدْ قومَك .
ولا تشاورنَّ مشغولًا وإن كان حازمًا ، ولا جائعًا وإن كان فَهِمًا ، ولا مذعورًا وإن كان ناصحًا .
ولا تضعنَّ في عُنُقِك طوقًا لا يمكنك نزعه إلا بشِقِّ نفْسك ، وإذا خاصمْتَ فاعدل ، وإذا قلتَ فاقتصد .
ولا تَستودعنَّ أحدًا دينَك وإِنْ قَربتْ قرابتُه ؛ فإنَّك إذا فعلْتَ ذلك لم تزَل وجِلاً ، وكان المستودَع بالخيار في الوفاء والغَدْر ، وكنتَ له عبدًا ما بقيت ، وإنْ جنَى عليك كنتَ أولَى بذلك ، وإنْ وفَى كان الممدوحُ دُونك “.
- وجاء في [ ثمار القلوب ] :
” أسقُفُّ نَجران : هو قسُّ بن ساعدة ، أحَدُ -بل أوحَدُ- حكماء العرب وبلغائهم ، وقد تقدَّم ذِكْره ، وضُرِب المثَل بخَطابته وبلاغته ، وهو القائل :
مَنَعَ البَقَاءَ تَقَلُّبُ الشَّمْسِ … وَغُدُوُّهَا مِنْ حَيْثُ لاَ تُمْسِي
وَطُلُوعُهَا بَيْضَاءَ صَافِيَةً … وَغُرُوبُهَا صَفْرَاءَ كَالوَرْسِ
اليَوْمَ أَعْلَمُ مَا يَجِيءُ بِهِ … وَمَضَى بِفَصْلِ قَضَائِهِ أَمْسِ
- عمر الرجل :
عُمِّر الرجل مائةً وثمانين سنةً ، أظهر التوحيد بمكة قبل البَعثة .
(صبح الأعشى)
ذكرَتْه كتب الأمثال :
أبلغ من قُس ، وأبْيَن من قس ، وأخْطَب من قس .
يا خالق هذا الرجل : ” سبحانك “.